جاري تحميل الموقع . يرجى الانتظار
رثاء 09 سبتمبر 2016

أكرم هنيـة

ثمة مفردات وتعبيرات قادرة أن تكون المؤشر والدليل لمفاصل هامة في الحياة العاصفة الحافلة لفيصل الحسيني: النزاهة، التصميم المعزز بايمان ثابت وببصيرة نافذة، شجاعة الفرسان النبلاء، والدماثة المشحونة بالكبرياء في زمن دميم.

غير أن هذه المفردات تظل عاجزة عن شرح تجلياتها في أداء فيصل الحسيني، كما أنها تظل قاصرة عن الافاضة بالتفاصيل ان لم تتم الاشارة إلى أنها كانت تندمج في منظومة واحدة عنوانها واسمها: القـدس.

القدس هي البداية، والقدس هي النهاية عند فيصل كبير عشاق القدس، وهي كذلك لا لانها فقط مدينته الساحرة العريقة والمفعمة بالدلالات المتسجدة للتاريخ الانساني والتي سكنته في كل دقيقة من حياته المرهفة، بل لأنه كان يؤمن – وكان على حق – أن لا فلسطين دون القدس، وأن معركة القـدس هي التي تحسم معركة الشعب الفلسطيني كونها ساحة الصراع الأشرس والأصعب والأهم.

وكانت الدماثة والتواضع والكبرياء لدى فيصل الحسيني تستند لارادة قدت من حجارة القدس العتيقة العريقة، ارادة صلبة واثقة – كحجارة أسوار المدينة المقدسة – تتكسر عليها الرماح ونصال السيوف، وصلابة تمتص جبال الهموم والهزائم وتفتتها بالبحث عن الأساسي والايجابي وعن نقاط الضوء والقوة، وشامخة تسمو عاليا لتستشرف الأفق وتصنعه عبر أدوات تحليل ثاقبة.

وبفضل هذه الارادة كان فيصل الحسيني يصنع لنفسه سيرة متميزة دون أن يلجأ للاتكاء على مجد عائلي مستحق، فرفض أن يسعى لنيل تفويض دوره بالوراثة، بل نحت دوره على مدار السنين الصعبة بنضاله الدؤوب لينال تفويضه من الشعب الذي خرج حزينا لوداعه يوم أمس.

وبفضل هذه الارادة المندمجة مع الناس، وبسطائهم خاصة.. والقادرة على التواجد الشخصي الدائم في الشارع وفي ميادين المواجهات، أن تغمر الآخرين بحنو الرعاية والتماثل والمشاركة والاهتمام بأدق التفاصيل في حياتهم، استطاع "أبو العبد" أن يقود ويخوض المعارك التي ميزت سنوات حياته والتي يمكن تحديدها في ثلاث معارك رئيسية.

أولا: معركة القدس:

كان إسهام فيصل الحسيني الأساسي يتمثل في سعيه الذي لا يتوقف أو يهدأ لحظة لتحويل معركة القدس من مجرد شعار وطني عام إلى برنامج نضالي متكامل يهدف، بجانب الحفاظ على فلسطينية وعروبة القدس تحت الاحتلال، إلى تطوير هذه الهوية بتعزيز مكانتها في الوعي الفلسطيني والعربي والاسلامي والدولي، وبرعاية وتنمية وخلق المقومات والأطر المادية والمعنوية اللازمة لكي تصبح هذه الهوية أكبر من الشعارات، وأعمق من الرموز. وعبر دفق لا ينقطع من المبادرات والأفكار، وعبر متابعة مثابرة لكم هائل من ملفات القضايا والتفاصيل الصغيرة، كان يقود معركة بناء مادي وسياسي ومعنوي ونفسي لكي تتجسد في المدينة المقدسة ركائز ومؤسسات عاصمة الدولة المستقلة.

ثانيا: معركة طرح الرواية الفلسطينية:

 كان فيصل الهادئ هدوء فوهة بركان تشتعل الحمم الملتهبة في أعماقه، هو أيضا السياسي الشجاع بامتياز، وفي بعض اللحظات كان يمكن الاستنتاج وباطمئنان أن ارتياد المناطق الخطرة والصعبة هو واحدة من هواياته – القليلة على أية حال. وفي كل هذه المناطق الملغومة كان فيصل يسير بثقة تشي بها ابتسامته، وباسلوب يعرض فيه قصتنا الفلسطينية مازجا بين الفكرة الخلاقة المقتحمة، وبين الاحالة للتاريخ الذي كان يملك احساسا استثنائيا بوقائعه ودروسه، ومسلحا فكرته باستشراف استراتيجي للمستقبل يتجاوز الحدود الضيقة، وفي نفس الوقت مقدما إياها باستعارات مبهرة.

وفي كل ذلك وقبل كل ذلك، وبعد كل ذلك، كان فيصل ومن اللحظة الأولى يفرض بمصداقيته وباسلوب ومضمون طروحاته احترامه على محاوريه مهما كانت جنسياتهم، وبذلك كان يسجل نجاحا وهو يروي وجهة النظر الفلسطينية سواء مع الغرب أم مع الاسرائيليين، وفي سعيه للسلام، فقد كان هجوميا يحيل الاخرين الى الجذور والبدايات، يذكر بالنكبة، ويذكر بالبيوت العربية في القدس الغربية وبقية المدن، ويضعهم أمام الأسئلة الجوهرية الصعبة وأمام تحدي السـلام الحقيقي.

ثالثا: معركة الدفاع عن وحدة الشعب الفلسطيني ووحدانية التمثيل:

 منذ أواخر الثمانينيات، شكل فيصل وكوكبة من رفاقه من القيادات الفلسطينية داخل الوطن المحتل الترس الدفاعي الذي جسد أحد أبرز تجليات هبة الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة لحماية منظمة التحرير الفلسطينية أمام الهجمات والمؤامرات التي استهدفت ضرب وحدة الشعب، وكسر وحدانية التمثيل عبر تشجيع قيام قيادة من داخل الوطن المحتل.

في تلك الأيام، كانت الاغراءات المتعددة الأشكال والجنسيات مترافقة بالضغوط والاضواء المبهرة للاعلام مركزة على هذا الترس الدفاعي الذي كان فيصل قلبه وقائده، وكان هو يرفضها وينبذها بدماثته الحادة كنصل السيف، وبهدوئه البركاني، وكان يتحرج أن يخبر أبو عمار بالتفاصيل، لم أفعل سوى واجبي الوطني، هل علي أن أتباهى بما فعلته؟!

لذلك كان يبدأ حواره مع كبار المسؤولين في عديد العواصم التي فتحت أبوابها أمامه، ومع عشرات المبعوثين والوفود، بواحدة من جملتين تتكفلان وعلى الفور باغلاق عشرات الدهاليز: إنني هنا بتفويض من قيادتي السياسية في تونس، أو: إنني أحمل إليكم رسالة من الرئيس ياسر عرفات.

في تلك الأيام صك فيصل عديد شعاراته اللامعة: نحن في الداخل سنكون الجسر الذي تعبر عليه القيادة إلى طاولة المفاوضات، و: سنكون حصان طروادة، وعندما تحين اللحظة سيجدون منظمة التحرير داخلنا إذا كانوا يرفضون تأكيدنا لهم أننا جزء منها.

لذلك، وكما قال مفاوض إسرائيلي بارز، وصل اسحق رابين في ربيع 1993 إلى قناعة أكيدة: لا فائدة منهم، علينا أن نتفاوض مع منظمة التحرير مباشرة، وكان ذلك انتصار فيصل ورفاقه الكبير.

وفي أيامه الأخيرة، كان فيصل الحسيني يمارس هوايته مرة أخرى، فيرتاد منطقة صعبة وخطرة، منطلقا من إيمانه بمصالح شعبه ومن إيمانه العميق والأصيل بالقومية العربية التي يجب ألا تتناقض مع الوطنية الفلسطينية المستقلة الارادة والقرار، وكعادته فرض على محاوريه احترامه، وكسب نقاطا هامة في كل جولة، في حين كان قلبه المرهف يتأهب لخسارة معركته الحاسمة مع القـدر.

للقدس، التي تحررت من جنود الاحتلال وأغلاله لساعات خلال تشييع جثمانه المهيب أمس، أن تبكيه، وأن تبكيه كثيرا، وهو الذي كان يصوخ حلمها، وكان كمن يبدو قادرا على حفظ أسماء جميع أبنائها ومؤسساتها وأزقتها وشوارعها وقطع أراضيها وبيوتها عن ظهر قلب. ولفلسطين أن تحزن، وأن تحزن كثيرا وهي تفقد فارسا استثنائياً متفردا من فرسانها الشجعان وقادتها الكبار.

غير أن بامكاننا لو تلفتنا حولنا أن نراه حاضرا، بنفس ذلك الحضور الطاغي والرقيق في الوقت نفسه، وبامكاننا أن نسمعه يردد ما كان يقوله في الشهور الأخيرة، حيث كان يشعر بالانتعاش وبدفق من الأمل زودته به وقائع الانتفاضة ولقاءاته مع أبناء الشعب الفلسطيني في مخيمات الشتات في لبنان... أن نسمع دوي صوته وهو يقول: لا بد من كسر مشروعهم الأمني لينتصر مشروعنا السياسي، لا بديل عن الانتفاضة من أجل الاستقلال، من أجل السلام... من أجـل القـدس.

المصدر: جريدة الأيام 2/6/2001

 

تحميل الملف المرفق