جاري تحميل الموقع . يرجى الانتظار
رثاء 09 سبتمبر 2016

 محمود درويش

 لا توغّـل في الغـياب

لم يشأ فيصل الحسيني أن يكون ساخراً وجارحاً إلى هذا الحد، كانت إحدى خصاله الفروسية أنه يحب الحياة، ولا يخاف الموت في آن واحد، لقد أعد نفسه للاستشهاد في أزقة القدس في أية لحظة، لكن القدر غدر الرغبة الصوفية، لذلك ظل موته مؤجلا، لم يولد تماماً ولم يمت تماماً، ما دام المجاز والواقع يتنافسان على امتلاك فلسطين.

لم نكن في حاجة إلى هذا الغياب الخاطف لنعرف، أو ليعرف، كم نحبه، لكن التراجيديا تأبى الاكتفاء بأقل من جرحنا من الوريد إلى الوريد، وما زلنا جاهزين لان نمتحن، دون أن نقول: كفى، وإلى متى آلاف الشهداء.. وفيصل.. وفيصل في ذروة اللياقة الانسانية والوطنية، يودع منذ قليل صديقنا الكبير ابراهيم أبو لغد، ويودعه تراب يافـا.

لكنه يمشي في شوارع القدس، يمشي عالياً على الأكف، كما يمشي المحرر العظيم، يختفي الاحتلال من الطرق والشرفات والمخيلة.. ليكمل فيصل الحسيني رحلته الأخيرة إلى باحة المسجد الأقصى، قرب والده الشهيد الكبير عبد القادر الحسيني، لتحمل السلالة الرسالة.

لم يذرف الشعب الفلسطيني من الدموع مثلما ذرف على فيصل، لا لان الموت لم يدق جرس الانذار – فالموت ثالث كل اثنين منا – بل لان سقفاً عالياً من سقوف القدس قد انهار علينا، بعدما صارت القدس المعاصرة وفيصل الحسيني توأمين لا ينفصلان.

ستبدو القدس ناقصة عما قليل، سينقصها أحد أسمائها، ستتحسس جسدها وروحها، فتفتقد فيصل الذي ملأ نسيجها بحيويته الفذة ومرحه الطليق... في بيت الشرق وفي السوق، في أنقاض دار، وفي المظاهرة، تحت الرصاص وبين دخان قنابل الغاز، في محتويات الصورة وعلى الاطار، فلا تعرف نفسها إن كانت ثكلى أم يتيمة.

لم تكن القدس استعارته الأدبية المثقلة بالرموز التاريخية والميثولوجية غير المحدودة، لقد كانت مدينته الشخصية، مدينته المحتلة، الواقعية، فأشاح بوجهه عن أساطير ليندمج في حياتها اليومية.

فالتاريخ هو هنا، يبدأ من الدفاع عن نافذة مكسورة، واصلاح انبوب ماء، من تنظيف شارع وترميم مدرسة، ومن حل مشكلة لبائع خضار جوال... لتثبيت الوجود العيني دفاعا عن الان، قبل إجراء تعديلات أركيولوجية بحثا عن قدس أخرى وعن أثار أنبياء. كان الحاضر هو ورشة عمله الوطني.

فعله أقوى من قوله، على الرغم من براعته في المحاورة. ومسلحا بصدقه مع النفس، وبإيمانه العميق بأن قوة المنطق أقوى من منطق القوة، كان أكثر الفلسطينيين اقتدارا على إحراج العدو والخصم والواقف بين بين.

ومن فرط ما هو مفعم بالشرعيات الوطنية والأخلاقية، لم يكن في حاجة إلى الضجيج، ولا إلى الاقامة في عباءة أبيه. كان قائدا على الرغم منه... لذا لم يتصرف إلا كجندي شديد الانضباط، ساخرا من تربية الخيول الطروادية!

ولانه عدو المقاعد، ومحصن ضد وباء الكاميرا، لم يكترث بما يعرف عما يعدّ له المستقبل من دور خاص في المنعطفات التاريخية القادمة، لا لان التواضع هو حليف الذكاء فحسب، بل لأنه كان أسمى من ذاته، فلم يوجه الجداول المنسابة إليه إلا إلى جهة النهر الواحد.

يا فيصل، لا توغل في الغيـاب. فأنـت تعرف كـم نحبــك...

افتتاحية مجلة "الكرمل" صيـف 2001