جاري تحميل الموقع . يرجى الانتظار
رثاء 09 سبتمبر 2016

 من أجل العادي فينــا

 بقلم: الدكتور عزمي بشارة

 حافظ فيصل الحسيني المقدسي العربي على توازنه في نمط قيادي مديني، حسبنا أننا فقدناه في ازدواجية الأيديولوجيات الشمولية المتعصبة من ناحية، والاستعاضة عن الفكر السياسي ووضوح الهدف بتهريج سياسي، يعيد انتهاج صورة استشراقية عن البساطة الريفية المدعاة من ناحية أخرى. وأثبت بذلك أن هنالك وطنية فلسطينية بسيطة متنورة، نابعة من الانتماء للوطن ومقاومة الغاصبين، كما أثبت أنه ليس بالضرورة أن تقوم هذه الوطنية على أنقاض الانتماء القومي العربي، أو على الحقد على شعب المحتلين، فمقومات الوطنية الفلسطينية الايجابية موجودة في استمرارية التاريخ الفلسطيني من يافا وحيفا وعكا واللد وصفد ونابلس والخليل وأريافها، وفي القدس واقعا يوميا حياتيا، وهالة سماوية، وفي الانتماء القومي العربي لفلسطين.

لا تقوم محبطة بسطاء الناس والحرص على مصالحهم على أيديولوجيا، ولا يحتاج الانتماء القومي العربي إلى فكر عنصري أو شوفيني، ولا تشتق الوطنية الفلسطينية بأدوات أيديولوجية من انهيار موهوم للقومية العربية مثلا، وإنما تؤسس عند قيادي أصيل على قيم مثل المساواة والحرية والتقدم ومحبة الوطن وتمني الخير والسعادة له. هذه العادية الواثقة الرهينة هي نقيض التشنج، الذي يدفع اليه العنف الداخلي المتراكم في نفس الواقع تحت الاحتلال إلى درجة تشوييها، ولا تحتاج هذه البساطة الممتعة الهادئة إلى تأكيد ذاتها عبر التحريض على الموقف الأقرب منها لكي تتميز عنه، فهي لا تقوم على التميز عن أقرب موقف فلسطيني فتجعله العائق الرئيسي أمام التحرير، وإنما تنشغل كما يتطلب العقل السليم والطبيعي بالخصم الأساسي، وهو الاحتلال سياسة وثقافة، ولا تتنافس هذه الطبيعة المنسابة مع تاريخ البلد على القيادة ضمن صناعة القضية الفلسطينية التي يعتاش منها عاشقوها المتنافسون على السيطرة على أدوات انتاجها، فهي تحب الفلسطينيين وتناضل من أجلهم وليس من أجل القضية.

فارقنا فيصل الحسيني ونحن في خضم الصراع على عروبة القدس العربية، وقد دفع فراقه، فراق من ولد في العراق وأسلم الروح في الكويت، بالخيال إلى أقانيم الحب العربي الشاسعة من الشغف إلى الوجود، ومن معاناة حصار العراق إلى حصار فلسطين، لم يكتمل مشوار فيصل الحرير بتحرير القدس، فعاد إليها محمولا على نعش، ليصبح مثواه الأخير في المسجد الأقصى، أداته الباقية في الصمود والتصدي لحفاري القبور ونابشي الآثار.

وليس فقط على مستوى الوجود العربي المتواصل، بهذا المعنى تسامحت القدس معلى مبدأ الوراثة، لأنها احتاجت كل وسائل الاتصال وكل التواصل الممكن مع الماضي القريب السابق للنكبات وللنكسات، ضد محاولات القطع والكسر والبتر في تاريخها.

وربما فسر التوق للتواصل مع الماضي، التسامح الذي أبداه خصوم يصل السياسيين تجاهه، وقد صعب الرجل القومي النشأة الفتحاوي الانتماء، مهمة تصنيفه، ومع أنه أيد مساعي التسوية منذ مدريد وحتى أوسلو، ومع أنه لم يجد حرجا ولا تطبيعا في الحوار مع قوى اليسار الصهيوني وقوى السلام، إلا أنه حافظ على أواصر علاقة وتحالفات نضالية وعلاقات صداقة مع بقية القوى المناضلة المعارضة لهذا المسعى.

ومع أن فيصل الحسيني كان مقدسيا وطنيا فلسطينيا إلا أنه بقي أيضا قوميا عربيا، وفي أحلك ظروف تدهور العلاقات الرسمية الفلسطينية مع بعض الدول العربية، حافظ على علاقته مع العرب، على المستويين الرسمي والشعبي.

وغالبا ما اندهش جمهور مستمعيه في الدول العربية إيجابا، أو خاب أمله من بساطة منطق الرجل، وذلك لشدة ما أغرقوه في الأساطير حول قيادات الداخل، فبات هذا الجمهور يتوقع الخطب الرنانة والبلاغة والسجال، بدلا من منطق المناضل المتمسك في الوقت ذاته بخيار السلام العادل، المهم أنه واصل التواصل، ولم يسرف بالبلاغة لأنه أخذ الكلام بجدية.

قيل ما قيل في بساطة ونظافة يد واستقامة مسلك فيصل الحسيني التي فسرها الخبثاء سذاجة قبل وفاته، ولكن المعجبين بالرجل والمستخفين بسذاجته، على حد سواء أجمعوا على عناده وشجاعته، فما فائدة التخابث عندما يتراجع صاحبه إلى البيت أو إلى الصفوف الأخيرة في المواجهة، ليتأمل بحسد كيف يقف الرجل صامدا فخورا وهو يدب الحماس بالشباب المنهكين تعبا، بعد أن جعلتهم الشرطة الاسرائيلية يصطفون تمهيدا لاعتقالهم بعد مذبحة الحرم القدسي الشريف، فهو يرفض الانصياع لأوامر الشرطة ويبقى واقفا شامخا، إذ يرفض الجلوس على الأرض، فجأة يطل كبرياء الوجيه الأصيل الذي لا يتكبر على شعبه ويتذلل على الحاجز الاسرائيلي طالبا احترامه لأنه وجيـه.

إنه عناده الذي رافقه بائعا متجولا، يقيم أود عائلته البسيطة تارة بزيت الزيتون وأخرى بالحواسيب، ويذكر بعض مثقفي القدس أول حاسوب "أوليفتي" اقتنوه منه كما يذكرون أول مظاهرة دعا إليها ولم يشاركوا فيها، فلا يخجل هو بقيادة مائة أو مائتي متظاهر ضد هدم بيت في بلد يحتل بجدارة مركز الاسطورة، ولكنه لم يحتل دائما متاريس النضال ضد المحتل، وتبوؤه المكانة الأولى في الجاهزية الكفاحيـة.

لذلك احتاج البلد من يفهم الفرق بين بساطة الرمز وتعقيد الواقع، وبين القدس السماوية والقدس الأرضية، ولذلك تجند عناد فيصل ومثابرته وجرأته لا أقل من أصله وفصله في قيادته لقضية القدس، لم يغرق فقيدنا ولم يذب في رمزية القدس ووزنها المعنوي، مع أنهما كافيان لتزويد مئات الجولات العربية والأوروبية بالوقود، بل أدرك بحس ابن المكان، ابن البلد، أن قضية القدس أكثر ترابية مما يبدو لعيني الناظر المحدق بالرمز، فهي أولا قضية مئتي ألف عربي يعيشون في ظل بلدية القدس الصهيونية، وسياسة الضم لا يساهمون بانتخابها، ولكن يتلقون قمعها وخدماتها المحدودة من التخطيط ضد وجودهم وبناء الأحياء اليهودية، ومحاصرة وخنق الأحياء العربية، الى مخصصات التأمين الوطني، إلى الضرائب التي تجبى من التجار في حملات بوليسية، على غرار مكافحة الارهاب، وهي ثانيا قضية حصار القدس وعزلها اقتصاديا عن محيطها الطبيعي "الضفة الغربية" وثالثا قضية غياب التجانس في أصول السكان، فلم تعد القدس أهليا متجانسة كما كانت قبل العام 1967، وهي رابعا قضية نسيج اجتماعي موحد وتعددية طوائف وأماكن عبادة، وهي بموازاة هذا كله قضية سياسية دولية واتصالات دبلوماسية يجب أن تتابع، ولا يستطيع أن يضطلع بالمهمة الثانية إلا من يتصدى للمهام الأولى. ولذلك أسس فيصل الحسيني العنوان الذي يتوجه إليه المواطن ليرفع أمره، والتاجر ليشكو وضعه، والقنصل المقيم في القدس ليسمع رأيه… العنوان الذي ينظم مظاهرة ضد هدم المنازل العربية وضد توسيع الاستيطان وضد الاحتلال، العنوان الذي لا يكل من تذكير العرب بعروس عروبتهم، لا إدانة أو تهكما، بل طلبا حقيقيا  للعون والتضامن. عرفت فيصل الحسيني قبل أكثر من عقدين عندما أقام جمعية الدراسات العربية، وما كان باحثا ولا ادعى أنه باحث، لكنه أقام عنوانا ومؤسسة عربية في القدس، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف الرجل عن اقامة المؤسسات ورعايتها، حفاظا على عروبة المدينة، والمهمة صعبة وتتجاوز الحاجة لرؤيا نضالية وكفاحية تتمسك بعروبة القدس، إلى بنية شخصية تترفع عن الغمز واللمز والثرثرة المنتشرة في ساحة فلسطينية محصنة من التشكيك بدوافع المناضلين، لأنها تستهلك الأعلام الإسرائيلي، كما تستهلك الأعلام العربي، وصناعة القضية الفلسطينية، تجعل الفرق بين الصالح والطالح، بين المبدئي والانتهازي، بين الأصيل والدخيل، تبدو كأنها تعددية بين آراء مختلفة تتساوى في القيمـة.

لم يمنح فيصل الحسيني في حياته من الاحترام والتقدير ما استحقه في وفاته، وقد تألم الرجل لذلك بصمت، فهو لم يسع إلى المجد، ولو أتقن تكتيك السعي اليه من الغرور في الاصرار على ما يريد ما خفية إلى التظاهر بالتواضع علانية، لاستوى أمره في حياته والتبس في مماته. لم يأل فيصل جهدا في توفيق الفلسطينيين مع ذاته، وإن كان صاحب رأي واضح فيما يجري، كما لم يبخل بمساهمته في إصلاح علاقات عربية فلسطينية في أوضاع حالكة، حتى عندما استغل آخرون مثل هذه الأوضاع لصالحهـم.

قابلته للمرة الأخيرة قبل وفاته بأيام ثلاثة، وكنا قد شاركنا في الأشهر الأخيرة سوية في ثلاث ندوات في قطر وفي القدس، كنا ندعي سوية لنحلل الأوضاع السياسية من زاويتين، فنصر على رؤيتها من زاوية واحدة، ولكن لقاءنا الأخير كان استثنائيا وفاجأ جلساءنا المتشائمين من الأوضاع، والفلسطينيون عادة يتشاءمون في الجلسات الاجتماعية ويتفاءلون في الاجتماعات.

كان اليوم مقدسيا جميلا يدعو إلى الجلوس لغداء متأخر بعد الظهر، ولم يتوقف فيصل عن الكلام، إما لأنه كان متفائلا فعلا، أو لأنه شعر أن من واجبه الوطني أن يشيع أجواء التفاؤل.

وقد أصر على أن إسرائيل في مأزق، وأنه إذا فشل شارون في قمع الانتفاضة فيسضطر الإسرائيليون لواجهة البدائل، فإما حل الدولتين في حدود الرابع من حزيران، أو سيضطرون على المدى البعيد للبحث عن مانديلا فلسطين، تجنباً لمصير خشية البيض في جنوب افريقيا، لو لم تتوفر سياسة ديمقراطية لدى المؤتمر الوطني الإفريقي.

ولذلك ليس أمامنا سوى الصمود، والمهم ألا نبالغ بضحايانا وبمعاناتنا لكي لا نخيف أنفسنا، ولكي نحافظ على مصداقيتنا عالميا، ومعاناتنا وضحايانا كافية لتجنيد التضامن معنا، وعدالة قضيتنا واضحة دون حاجة لأي مبالغة… كلام بسيط وصحيح، بغض النظر أكان صاحبه متفائلا أم يدعو للتفاؤل؟ لكي يتوفر الأفق السياسي اللازم للصمود، على أية حال كنت سأقول نفس الكـلام بلغـة أخـرى وبتحليل أطـول وبأسانيد أخرى، ولكن وجدتني صامتا استمع إليه باعجاب.

عن مجلة عبير