(هذه المحاضرة ألقاها فيصل عبد القادر الحسيني بتاريخ 8/2/1990 في مدينة طمرة، بدعوة من الحزب الديمقراطي العربي بحضور رئيس الحزب السيد عبد الوهاب دراوشة، والسيد نمر حسين رئيس اللجنة القطرية ورئيس لجنة المتابعة العربية العليا ورئيس بلدية شفاعمرو، حيث ألقى كل منهم محاضرة مختصرة. كما ألقى الشعراء: حنا إبراهيم، محمود دسوقي، وشفيق حبيب قصائد في هذه المناسبة).
مقدمة
لا تستطيعون أن تتصوروا مدى الدفء، مدى الاطمئنان، مدى الثقة التي تمنحوننا إياها، عندما نأتي إلى هنا ونلتقي أبناء شعبنا الفلسطيني الصامد المنغرس في أرضه. عندما نشاهدكم هنا بهذه القوة، بهذا الإصرار، نعلم تماماً بأن ما من قوة تستطيع أن تقتلع الشعب الفلسطيني "من أرضه"، ما من قوة تستطيع أن تهزم الشعب الفلسطيني.
لقد أشار السيد حنا إبراهيم في قصيدته المعنونة "المُرّة" إلى الخلافات، إلى النزاعات، وإلى الانقسامات. أود أن أقول: بإمكانكم أن يكون لديكم تعدد "حزبي وسياسي"، بالإمكان أن تكون لدينا أفكار عديدة، بالإمكان أن تكون لنا راياتنا الخاصة، أقول لكم: إرفعوا الرايات، اختلفوا بهذه الرايات، إرفعوها بيضاء، إرفعوها خضراء، إرفعوها سوداء، إرفعوها حمراء، ولكن لا تخرجوا عن هذه الألوان. رفعناها قبل الانتفاضة، رفعنا هذه الألوان كلها، شكّلناها بأشكال عديدة لكننا حرصنا على أن تبقى. هذه الألوان هي مزيج. ولهذا، عندما آن الأوان، وعندما كان الاستعداد تمكّنت هذه الألوان كلّها من أن تتجمع لتكوّن نسيجاً واحداً رفعناه في الانتفاضة.
اعذروني إن كنت سأطيل الحديث قليلاً، واعذروني أنني لن أكون في حديثي مثيراً للحماس، ولكنّي أريد أن أخاطب فيكم العقل والقلب. لذا أرجو أن تمنحوني صبركم وإصغاءكم، حتى نستطيع أن نصل إلى الشكل الذي نستطيع فيه أن نخدم قضيتنا "الوطنية" على الوجه الأفضل.
بداية النضال الفلسطيني
نحن كفلسطينيين بدأنا النضال منذ بداية القرن في مواجهة قوتين ومن أجل تحقيق هدفين؛ ناضلنا من أجل الاستقلال، وناضلنا من أجل وحدة أراضينا. ناضلنا من أجل الاستقلال في مواجهة الانتداب البريطاني وناضلنا وقاتلنا من أجل وحدة أراضينا في مواجهة الحركة الصهيونية. قاتلنا وناضلنا وكانت هناك ثورات وانتفاضات، كانت لنا معارك وسقط لنا شهداء كثر. بذلنا ما كان بوسعنا أن نبذله في تلك الأيام، إلى أن كانت معركة 1948 عندما خسرنا تلك المواجهة. وعندما خسرنا المواجهة في عام 1948 لم نخسر فقط أراضينا، لم نخسر فقط مدننا وقرانا، وإنما خسرنا هرمنا الإجتماعي.
في عام 1948 انتقل جل الشعب الفلسطيني من شعب يعيش على أرضه ضمن تنظيم اجتماعي عادي الى شعب من اللاجئين يعيشون في الخيام يقف في الصفوف ينتظر الإغاثة. تشتت الشعب الفلسطيني الى أكثر من موقع، القيادة الفلسطينية في تلك الفترة لم تنتبه الى هذا الواقع، حاولت أن تستمر في قيادة الشعب بنفس الهرم السياسي المبني أساساً على ذلك الهرم الإجتماعي المنهار. ولهذا السبب، وخلال عامين فقط، أدار الشعب الفلسطيني ظهره لقيادته، وبدأنا في فترة جديدة نعيش فيها شعب بلا قيادة، بلا أرض، بلا دولة. هذا الوضع مع هذا التشتت، أوجد الشعب الفلسطيني في كل مكان (ضمن تجمعات مختلفة) وكل تجمع لوحده؛ تجمع تحت الحكم الإسرائيلي، تجمع في غزة تحت الحكم المصري، آخر في الأردن تحت الحكم الهاشمي، وتجمعات أخرى في سوريا وفي لبنان وفي مناطق أخرى. نعم جميعنا كنا نناضل من أجل مصلحة الشعب الفلسطيني ومن أجل العودة إلى الوطن ، ولكن كل طرف منا كان يناضل وحده تحت الظرف الذي كان يعيشه وضمن الظروف المفروضة عليه.
استمر هذا الوضع ونحن خاضعين للظروف الإقليمية العربية حتى عام 1967 عندما قامت إسرائيل باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وصحراء سيناء ومرتفعات الجولان ووجهت بهذا ضربات عنيفة للأنظمة العربية، وأضعفت هذه الأنظمة وأضعفت قدرتها على السيطرة. وبالرغم من تلك النكسة، وبالرغم من تلك النكبة، إلا أنها قدمت شيئا جديداً للفلسطينيين. أعطتنا حرية الحركة. في فترة معينة زالت الحدود بين الدول العربية. أذكر في تلك الأيام عام 1967، عندما كنا نتحرك من لبنان إلى سوريا إلى الأردن، نعبر النهر إلى الضفة الغربية لنجد أنفسنا في كل أنحاء فلسطين، كنا نصل إلى غزة ونعود ونكرر هذه الرحلة مرات ومرات. في عام 1967 تمكن الشعب الفلسطيني من إعادة الإتصال (بين تجمعاته المختلفة)، من إعادة الترابط، وبدأ يشعر بإنتمائه وبهويته. وتمكنا، وخلال فترة وجيزة، من إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لننقلها من منظمة عربية للسيطرة على الفلسطينيين إلى منظمة فلسطينية لخدمة الأهداف الفلسطينية. خلال عامين قاتلنا على الأرض الفلسطينية للتخلص من الإحتلال الإسرائيلي، لكن وربما لأن بلادنا صغيرة، وربما لأننا لا نملك لا جبال ولا غابات، ربما لأننا لم نكن نملك التنظيم الكافي، وربما لأن العدو كان قوياً جداً، دفعت قوات الاحتلال أجهزة الثورة الفلسطينية وقواتها إلى خارج الأرض الفلسطينية. وخلال سنتين، وجدنا بأن قواتنا الأساسية تقاتل خارج الأرض الفلسطينية، تقاتل من على أراض عربية مختلفة ضد إسرائيل.
عندما بدأنا هذه المرحلة، عندما بدأنا نقاتل على أرض الغير، بدأنا نتعرض ليس فقط للتناقضات الداخلية الفلسطينية، إنما أيضا للتناقضات الداخلية للشعوب التي كنا نقاتل على أرضها. وهذا دفعنا للتورط في معارك كثيرة، في صراعات لم تكن لنا مصلحة فيها، وفي صراعات لم نحلم يوماً أن نكون طرفاً فيها. قاتلنا في الأردن، قاتلنا في لبنان حرباً طويلة، لم نكن نعرف في بعض الأحيان من هو حليف اليوم ومن هو حليف الغد، ومن هو عدو اليوم ومن هو عدو الغد. هذا الواقع، الذي وإن كان قد جمع الفلسطينيين أكثر، إلا أنه وضعنا ووضع قيادتنا أمام واقع ألزمها لأن تتخذ المواقف المختلفة بناء على التوازنات الإقليمية في المنطقة العربية. هذا الوضع استمر حتى عام 1982 عندما قامت القوات الإسرائيلية بمحاولة إبعاد منظمة التحرير الفلسطينية عن الحدود الفلسطينية، وتحطيم قوات الثورة الفلسطينية في لبنان.
قبل هذه الفترة كنا نحن المقيمون في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قد حددنا لأنفسنا دوراً، هذا الدور أطلقنا عليه "الصمود"، أي أن نصمد على الأرض، أن لا نغادر، ليس من الضروري أن نقوم بأي شئ آخر سوى البقاء والصمود والبناء. في تلك الأيام كنا نجلس في ندوات، ونخوض نقاشات، وأنا أتحدث عن أغلبية وليس أقلية -نعم كان هناك أقلية، قاتلت بكل ما لديها من قوة، بكل ما لديها من إمكانيات وكانت بالفعل جزء لا يتجزأ من منظمة التحرير الفلسطينية بكل معنى الكلمة-، لكن أغلبيتنا كانت تعيش حياة تصدي أطلقنا عليها "الصمود". في جلساتنا، في سهراتنا، في نقاشاتنا، كان السؤال الذي يدور في معظم الأحيان لماذا لم تقم منظمة التحرير الفلسطينية بهذا الإجراء أو ذاك؟ لماذا قامت المنظمة بهذا التصرف؟ ولماذا اتخذت هذا الموقف ولم تتخذ سواه؟ كان السؤال دائماً متى سيأتون ويحررونا من الإحتلال الإسرائيلي؟ متى ستأتي منظمة التحرير متى سيصل جيش التحرير؟ كنا ننظر إلى ما يعملون، ننتظر، كنا ننتقد، نؤيد، لكننا في النهاية ننتظر متى سيأتون.
إلى أن كان عام 1982 عندما اندفعت القوات الإسرائيلية في محاولة لتحطيم البنية التحتية لمنظمة التحرير الفلسطينية وإبعادها عن لبنان، ونجحوا في ذلك. شاهدنا كيف استطاعوا تحطيم البنية التحتية للمنظمة في لبنان. شاهدنا كيف تمكنوا من إبعاد قوات المنظمة، إبعاد الأمل الفلسطيني بعيدا إلى العراق، إلى تونس، إلى السودان، إلى اليمن،...الخ . وبدأنا نشهد كيف بدأت الأنظمة العربية تتجاهل منظمة التحرير الفلسطينية، بل وتقاتلها في بعض الأحيان. شاهدنا كيف بدأ العالم تجاهل كل مشكلة الشرق الأوسط، وكيف اجتمع (الرئيس الأمريكي ) ريغان (والرئيس السوفيتي) وجورباتشوف في قمتهم، كانت قضية الشرق الأوسط، القضية الفلسطينية غائبة تماماً عن ذلك الاجتماع. ثم شاهدنا والألم يعتصر قلوبنا كيف بدأت الخلافات والانقسامات تدب في داخل منظمة التحرير الفلسطينية. ولكننا كنا، وفي نفس الوقت، شهوداً على القتال البطولي لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، 88 يوماً من القتال -عمل لم يقم به أي جيش عربي في السابق-. شاهدنا كيف تمكنت المنظمة مرة أخرى من إعادة بناء بنيتها التحتية في لبنان، وكيف تمكنوا من العودة للدفاع عن المخيمات الفلسطينية في لبنان، ثم شاهدنا كيف تمكنت المنظمة من استرداد دورها السياسي، وفرضت نفسها مرة أخرى على الأنظمة العربية، وأخيراً كيف تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية من استعادة وحدتها في المؤتمر (المجلس) الوطني الفلسطيني الثامن عشر.
كل هذه الأشياء، السلبي منها والإيجابي، خلقت لدينا سؤالاً جديداً تداولناه خلال الفترة الواقعة بين عام 1982 و 1987 وهو لماذا نحن لا نقوم بكذا وكذا، لماذا لا نقوم نحن بالدور الفلاني، لماذا لا نتحرك بهذا الإتجاه أو ذاك؟ عندما بدأ السؤال يطرح علينا لماذا لا نقوم نحن، وليس لماذا لم تقم المنظمة بذلك؟ عندها بدأنا ندخل إلى مرحلة نكون فيها فعلا جزءا من منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا الذي فجر الانتفاضة.
انتفاضة عام 1987
عندما بدأت الاتفاضة، وبكل بساطة، عادت الثورة الفلسطينية إلى الأرض الفلسطينية. عندها بدأنا نحن نعاني فقط من تناقضاتنا نحن وتناقضاتنا مع الإحتلال، وهذا شئ نحن قادرون على التعامل معه. ولأن الانتفاضة لم تأت من فراغ، فقد أتت من أرض حرثتها، سقتها وزرعتها منظمة التحرير الفلسطينية، لذا قادت منظمة التحرير الفلسطينية هذه الانتفاضة. وعندما قادتها، قادتها أيضاً على الأرض الفلسطينية. إن ما قامت به الانتفاضة هو أنها أعادت الأمور إلى طبيعتها، أعادت الثورة الفلسطينية إلى الأرض الفلسطينية، وأعطت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أرضاً ثابتة صلبة تقف عليها وتناضل من خلالها. ببساطة حررت الانتفاضة منظمة التحرير الفلسطينية من كل القيود التي كانت تفرضها عليها توازنات الأنظمة العربية، وتوازنات الصراعات العربية والدولية في المنطقة العربية. عندها تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية فعلا من أن تحقق استقلالها السياسي من أن تحقق استقلالية القرار الفلسطيني، وأن تتخذ القرارات السياسية العليا، آخذة بعين الاعتبار المصلحة الفلسطينية وليس التوازنات الإقليمية.
الانتفاضة الفلسطينية، كما تعلمون، ليست عملية عسكرية. الانتفاضة لا تسعى إلى تحرير الأرض الفلسطينية شبراً شبراً. الانتفاضة شيء آخر. الانتفاضة حركة شعبية جماهيرية واسعة تسعى إلى تحرير العقل ، إلى تحرير الفكر.
باختصار الانتفاضة تقاتل في معركة أساسية اسمها الرأي العام. ونحن نقاتل من أجل كسب الرأي العام على أربع جبهات: الجبهة الفلسطينية، والجبهة الدولية، والجبهة الإسرائيلية، والجبهة العربية. العام الأول للانتفاضة، بالرغم من كل الأحداث وبالرغم من كل المعارك وبالرغم من كل التأثيرات، إلا أن المعركة كانت معركة فلسطينية داخلية من أجل الرأي العام الفلسطيني. كانت معركة بين الفلسطينيين وفي داخل كل فرد فلسطيني. معركة، كانت تدور في داخل كل واحد منا، ما بين "العدل المطلق" و"العدل الممكن"، ما بين الحلم المشروع والواقع . في هذه المعركة انتصر الواقع، انتصر الممكن. وخرجنا بمبادرة السلام الفلسطينية التي تدعو الى حل "الدولتين". الدولة الفلسطينية بجانب دولة إسرائيل وليس مكانها. ومع هذا القرار الذي خرجنا به، حملناه، تسلحنا به واتجهنا نحو الساحة العالمية، لنخوض معركة على الجبهة العالمية الدولية، محاولين إيصال رسالة الانتفاضة. وأعتقد أننا وخلال العام الثاني للانتفاضة قد حققنا انتصارات واسعة على المستويات الدولية، خاصة في أوروبا، وجزئياً في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أننا حققنا انتصارات حقيقية.
معركة الرأي العام الإسرائيلي
هذا العام الثالث، نحن نعتقد بأنه يجب أن يكون العام الذي نخوض فيه المعركة من أجل تغيير الرأي العام الإسرائيلي. وهذا ممكن، ممكن لأن الانتفاضة أحدثت تغييرات في داخل المجتمع الإسرائيلي، قد نقول بأنها لم تغير التوازنات، لم تغير الميزان، ولم تصل إلى مستوى تغيير في توجهات هذا المجتمع، وقد يكون هذا صحيحاً، لكنها أثرت على الشكل الداخلي للمجتمع. إن كان هناك معسكرين في إسرائيل يطلق على أحدهما معسكر الحمائم، والثاني معسكر الصقور. نحن نستطيع أن نقول ان الانتفاضة جعلت معسكر الحمائم أكثر حمائمية، وجعلت معسكر الصقور أكثر صقورية. جعلت هذه الانتفاضة المعسكرين الإسرائيليين في موقفين متقابلين الواحد اتجاه الآخر. إضافة الى ذلك، ونتيجة للقمع الذي استمر طوال سنوات، ونتيجة للقمع المتزايد خلال الانتفاضة، بدأ يتضح بأن هناك تأثيراً متزايداً من الإحتلال على المجتمع الإسرائيلي نفسه، فقد بدأت مظاهر الديمقراطية داخل إسرائيل تتآكل. بدأ الفرد الإسرائيلي الذي يعمل على قمع الشعب الفلسطيني، على ذبح كل مبادئ الديمقراطية والحرية في المناطق المحتلة، بدأ هذا الفرد يعتاد هذا الشيء، وبدأ يستمتع بهذا الشيء. وعندما يعود إلى بيته، إلى قريته، إلى مدينته، بدأ يعود وهو يحمل أفكاراً جديدة، مباديء جديدة، تختلف عن تلك التي تعلمها وتلك التي أسس على أساسها. لهذا السبب نحن نرى بأن جزءاً من المجتمع الإسرائيلي مازال مؤمنا بمثل ديمقراطية معينة وبحريات معينة، وأنا أتحدث كيف ينظرون لأنفسهم وليس كيف ينظرون إلينا. هذا القسم بدأ يشعر بأن استمرار الاحتلال يهدده، يهدد مبادئه، بهدد كيانه، ويهدد شكل حياته وبالتالي فهو يجب أن يقاتل ضد الاحتلال ليس من أجل إراحة ضميره، وليس من أجل مساندتنا، ولكن من أجل الدفاع عن نفسه. نحن نعتقد أن بإمكاننا أن نعطي قوة وزخم أكثر لهذا علينا أن نقنعهم بأن إستمرار الإحتلال ليس تهديداً للمجتمع الفلسطيني فقط بل هو تهديد للمجتمع الإسرائيلي وكينونته ومبادئه وشكله. وبالتالي فالإسرائيلي يجب أن يقاتل ضد الإحتلال ليس من أجل إراحة ضميره، وليس من أجل مساندتنا، ولكن من أجل الحفاظ على المجتمع الإسرائيلي، ومن أجل الدفاع عن نفسه. إنني أعتقد أنه بامكاننا أن نعطي قوة وزخماً أكبر لهذا القسم من المجتمع الإسرائيلي، حتى يتغلب على الجزء الثاني. ومن خلال ذلك نحقق نحن ما نريد. أنا أرى أن لنا قوة ومخزون هائل في ذاك المجتمع الإسرائيلي هو الفلسطينين هنا. أنتم القوة التي تواجه الإسرائيليين يوميا، التي تتحدث إليهم يوميا، القادرة على الوصول إلى أعماق أعماقهم، القادرة بالتالي على نقل رسالة الانتفاضة، رسالة الشعب الفلسطيني، رسالة منظمة التحرير الفلسطينية. رسالتنا بسيطة، نلخصها ب: أننا نقاتل من أجل تحرير شعبنا، وليس من أجل استعباد أي شعب آخر، نحن نقاتل من أجل إقامة دولتنا وليس من أجل تدمير أي دولة أخرى، نحن نكافح من أجل تأمين مستقبل آمن لأجيالنا القادمة، وليس من أجل تهديد مستقبل أجيال أي شعب آخر. هذا المنطق أنتم قادرون على نقله من خلال الطرح النظري ومن خلال الشكل الذي تتصرفون به. تذكروا بأن الجزائر، تذكروا بأن فيتنام، بالرغم من كل المعارك، بالرغم من كل الدماء، بالرغم من كل التضحيات في ساحة المعركة، إلا أن اللحظات الحاسمة كانت في واشنطن وكانت في باريس. وهنا أيضاً ستكون اللحظة الحاسمة في ساحات المدن الإسرائيلية، وذلك عندما نتمكن من دفع الجماهير الإسرائيلية بأن تفهم وتعي بأن الإحتلال هو مدمر لمجتمعهم، وهو مدمر لوجودهم، وأن المستقبل هو مستقبل التعاون في هذه المنطقة، مستقبل السلام، مستقبل التعاون بشكل متساوي مع الفلسطينيين وفيما بعد مع العرب. موضوع طويل، يمكن أن نجعل تفاصيله تطرح من خلال الأسئلة والأجوبة.
مرة أخرى لكم دوراً كبيراً وهاماً، وستزداد أهميته على مر الأيام. أنتم قادرون على أن تساندوا الانتفاضة، على أن تقوموا بجهد هائل ودونه لا تقوم الدولة الفلسطينية ليس فقط على المستوى السياسي أو المستوى المعنوي، بل أيضا على المستوى المادي. أنتم بإمكانكم أن تدعمونا بالداخل، أن تدعمونا مادياً، والدعم المادي لا يقتصر فقط على إرسالكم لنا المؤن، على إرسال مساعدات وملابس، ولكن على أن تدعموا أيضا انتاجنا . هناك انتاج فلسطيني يحاول أن يوقف امتداد الصناعات الإسرائيلية إلى داخل قرانا واقتصادنا الفلسطيني، وبإمكانكم أن تدعمونا من خلال شراء هذه المنتجات. أنتم تستطيعون أن تدعمونا وخاصة بعض المدن التي قام اقتصادها أساسا على السياحة مثل أريحا، مثل القدس. تصوروا ان بلدة أريحا تمتلك سبعة مطاعم، وكانت تعيش عليها، على الزوار والسياح الذين يأتون إلى أريحا. الآن، وفي ظل الانتفاضة هذا الأمر غير متوفر،( لم تعد مطاعم أريحا تعمل)، هناك محاولات لجلب عناصر سياحة خاصة تأتي إلينا كفلسطينيين لتتعامل معنا. تصوروا إذا استطاعت كل قرية فلسطينية هنا أن ترسل على الأقل حافلة واحدة أسبوعياً إلى القدس أو أريحا، تمضي الفترة بين التاسعة والثانية عشر، تقوم بالشراء من الأسواق ، تأكل في المطاعم الموجودة هناك. لا تتصورون كم سيساعد هذا الأمر الناس هناك على الاستمرار، على البقاء، بإمكانكم فعل ذلك، بإمكانكم أن تشعروا عندها هؤلاء القابعين تحت منع التجول معظم أيام الأسبوع بأنه في بعض أيام الأسبوع الحياة تسير وأيضا هناك من يأتي ليساعد هذه الحياة على الاستمرار.
لا أريد ان أطيل، لكنني أريد أن أؤكد مرة أخرى بأن وجودكم هنا ومد جذوركم في هذه الأرض هو المحرك الأساسي والمعلم الأساسي للفلسطينيين في كل مكان بأن يستمروا في نضالهم وبأن يقتنعوا دائما بأن ما من قوة تستطيع أن تهزمهم.
وفي معرض رده على أسئلة الحضور ورد على لسانه:
قبل سنة وبعد خروجي من السجن عقد اجتماع في فندق النوتردام في القدس حضرته مجموعة من حزب العمل الإسرائيلي بينها يوسي بيلين وآخرون. في هذا الاجتماع كان هناك فقط مشروع اسمه مخطط رابين للانتخابات. وسألونا يومها عن هذا المخطط. كانت الإجابة بالشكل التالي: الجميع يتحدث عن انتخابات فلسطينية، ولكننا جميعا نعرف بأنه بانتخابات، بدون انتخابات، الذي سيمثل هي منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن ما هو موقف الجانب الإسرائيلي. هل الحكومة الإسرائيلية قادرة على اتخاذ قرار ضمن هذه الحكومة غير محددة الماهية، هل هي ليكود، هل هي معراخ، هل هي برأس واحد أم بأكثر من رأس. قلت لهم بأن الجميع يتحدث عن انتخابات فلسطينية، لكن في الواقع إن كل هذا الحديث هو من أجل إعداد الطريق من أجل انتخابات إسرائيلية جديدة. أنا لا أعتقد إلا أن كل الأشياء من مخطط رابين، مشروع شامير، نقاط مبارك العشرة، نقاط بيكر الخمسة، الوفد الفلسطيني، من سيحضر (هل يحضر) ناس من القدس أم لا، هل يحضر ناس من الخارج أم لا ( انضمام ممثلين من الخارج للوفد الفلسطيني أم لا)، هل تعين المنظمة أعضاء الوفد أم لا، هل سيتحدث الوفد باسم نفسه أم باسم المنظمة. كل هذه الأحاديث لن تؤدي لا إلى عقد اجتماعات في القاهرة ولا إلى مفاوضات ولا إلى انتخابات فلسطينية، ولكن مهمتها الرئيسية -وإن نحن أجدنا استخدام هذه الأشياء ونحن نجيدها-، هي إثارة المزيد من الأسئلة داخل المجتمع الإسرائيلي، في داخل الساحة السياسية الإسرائيلية من أجل إجراء تغييرات أساسية داخل المجتمع. مرة أخرى ، كل الحديث ليس من أجل كل هذه الأشياء، ولكن قطعا سيخدم التغيير داخل المجتمع الإسرائيلي. لهذا السبب معنوياتنا لا ترتفع ولا تنخفض إن كان هناك وفد أو إن لم يكن هناك وفد. معركتنا ليست من أجل وفد وليست من أجل انتخابات، معركتنا واضح أنها من أجل تحرير أراضي الدولة الفلسطينية، من أجل إقامة الدولة الفلسطينية. ونحن نرى أن كافة التحركات السياسية هي بالأساس لعبة سياسية هدفها من جهتنا تغيير الموقف الإسرائيلي، وهدفها من جهة السلطات الإسرائيلية، كسب المزيد من الوقت. من يستطيع أن يستخدم هذا الوقت أكثر هو الذي ينتصر.
اما حول شكل النظام الفلسطيني المستقبلي فقد ذكر أبو العبد ما يلي: نحن كفلسطينيين عشنا تجارب في ثلاثة أماكن: عشنا تجربة تحت السلطة الإسرائيلية، أخرى تحت السلطة الأردنية وثالثة تحت السلطة اللبنانية أو في لبنان. في لبنان شاهدنا الحرية بدون سلطة، وفي الأردن شاهدنا السلطة بدون ديمقراطية، وفي إسرائيل شاهدنا الديمقراطية بدون مساواة. عندما تقوم الدولة الفلسطينية سنحرص على أن تكون دولة تحترم فيها الحريات، تحترم فيها الديمقراطية، دولة مساواة، وفيها سلطة تستطيع الحفاظ على هذه الأشياء.
وحول الجبهة العربية قال: لم أتحدث حول الجبهة العربية لأنها هي الجبهة المستقبلية، هي الجبهة الرابعة ويمكن أن أقول أنها ستكون في السنة الرابعة أو قد تكون في السنة الخامسة لأنه قد تأخذ المعركة الإسرائيلية أكثر من سنة. الجبهة العربية جبهة هامة جدا. أنتم تعرفون أن المعركة وقتالنا من أجل الحل، حل سلمي شامل، يشمل المنطقة كلها، وبالتالي يجب أن يكون الرأي العام العربي مهيئا لدخول معركة السلام بشكل قوي وبشكل متفهم يستطيع من خلاله أن يحول هذه المنطقة، إلى منطقة تستطيع أن تدخل القرن الواحد عشرين بشكل محترم وبشكل كريم.
أنتم تعرفون أن دول صغيرة مثل بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، لا تستطيع ان تعيش وحدها بعد الآن ولهذا شكلت السوق الأوروبية المشتركة. في الشرق الأوسط دولنا لن تستطيع أيضا أن تعيش منفردة وليس أمامنا إلا أن نعيش ضمن وحدة إقتصادية في المستقبل. هذه الوحدة الاقتصادية سيكون أحد شركائها إسرائيل. ما لم يكن الرأي العام العربي متفهما لطبيعة المجتمع الإسرائيلي، لقدرته لإمكانيته، هو لن يستطيع أن يقيم معادلة تكفل لهذه المنطقة أن تقود نفسها من خلال نوع من العمل المشترك المعتمد على المصالح المشتركة المتساوية التي لا تسمح لقوة بأن تسيطر على الأخرى. العالم العربي قد يكون صعبا ولكن ليس بالشكل الذي نعتقده. أنا أعتقد أن رياح التغيير التي هبت على أوروبا والتي هبت قبلها في هذه الانتفاضة بدأت تفعل فعلها في الشارع العربي، وستشهد تغييرات كثيرة في المنطقة العربية.
حول موضوع الباص، ما من دولة ما من شعب يستطيع أن يسيطر 100% على شعبه. حتى الدول ذات القدرات الهائلة والسلطات المتوفرة على أرضها لا تستطيع أن تتحكم بكل أبناء شعبها. نحن نقوم بدور خارق عندما نتمكن من السيطرة على هذا الجسم الكبير من الشعب وعندما تكون الاختراقات القادمة من الفلسطينيين تأتي متباعدة بالشكل الذي تتم به حاليا. هذا الحادث، هذا المجهود، لا شك أنه كان يستهدف قبل أن يضرب التحرك السياسي، قبل أن يؤذي الحكومة المصرية، قبل أن يؤذي السياح الإسرائيليين، هو كان يستهدف بالدرجة الأولى إيذاء وتحطيم منظمة التحرير الفلسطينية. لهذا السبب مهما كانت جنسية القائمين به، مهما كان الأصل لهذا الإنسان الذي كان به، إلا أنه في الحقيقة لم يكن يخدم المصلحة الفلسطينية على الإطلاق. بوعي أو بدون وعي هو كان يخدم مصلحة غير فلسطينية.
وحول رؤيته للمنطقة مستقبلاً، فقد أكد: أن المنطقة لن تستطيع الإنتظار طويلاً في ظل النظم السياسية والاقتصادية السائدة، فلا يوجد مفر من إقامة سوق شرق أوسطية داخلية، وبالتأكيد ستكون إسرائيل أحد شركائها. أن المنطقة لابد أن تتوحد ضمن هذه السوق التي يجب أن تبنى على المصالح المتبادلة المتساوية، دون هيمنة أو احتكار... إن رياح التغيير التي هبت على أوروبا ستصلنا.