جاري تحميل الموقع . يرجى الانتظار
رثاء 09 سبتمبر 2019

زياد أبو زياد

عزيزي أبو العبد : أهديك أعطر التحية وأطيب الدعاء

 لقد ترددت كثيرا قبل الكتابة إليك فانا لم أعتد على غيابك لم اعتد مخاطبتك على الورق.. فقد كنت دائما حاضرا، كنا كثيرا ما نتحدث وجها لوجه أو عبر الهاتف الثابت أو النقال.. وكنت دائما هناك أصلك كلما احتجت إليك.. وكثيرا ما كنت تتصل فنتحدث في هموم الوطـن عبــر الأميــال.

لم يكن البعد الجغرافي حائلا في أي يوم من الأيام دون الحديث معك… ولم تكن رغم انشغالك وبرامجك المكتظة أثناء سفرك بعيدا عن أدق تفاصيل ما يجري في القدس أو الساحة السياسية… كنت تستفسر وتتابع وتنشغل رغم انشغالك.. واليوم ورغم البعد الجغرافي الذي لا يذكر… أصبحت بعيدا بعد ملايين السنوات الضوئية.. لم أعد قادرا على رفع سماعة الهاتف لاتحدث إليك.. ولم أعد أقدر على أن أطلب من أحد أن يبلغك أنني بحاجة إليك.. ولم تعد بدورك قادرا على الاتصال لتستفسر عن خبر سمعته وأنت في ترحالك وتريد استيضاحه.. أو تقول أنك قريب من وتريد أن تمر لنحتسي الشاي معــاً.

أتذكر أول لقاء لنا عام 1965 حين قدمت في إطار عملك بمنظمة التحرير الفلسطينية إلى القدس للتعبئة الشعبية، وبدأت تلتقي الناس في بيوتهم يحتشدون بالعشرات ليستمعوا إلى المبشر الواعد، الذي جاء ليشحذ الهمم ويوقظ الوعي القومي الفلسطيني ويحشد الجماهير في إطــار م.ت.ف.

كانت تلك نقطة البداية.. تبعتها لقاءات لا تحصى، وعمل مشترك وتعاون ثابت، ظل مستمرا ومثمرا إلى لحظة فراقك. حين أخلو إلى نفسي هذه الأيام أشعر بالوحشة والغربة.. أفتقدك.. وأنا لم أشعر يوما من الأيام أنني افتقدك أكثر مما أشعر اليوم.. ومن خلال افتقادك والحنين إليك، تجول في رأسي الذكريات كشريط من الفيديو يتنقل عبر السنين.

كان ذلك في أواسط السبعينات حين اصطحبتك معي إلى كيبوتس ميفلسيم بالنقب حيث كنت قد دعيت لالقاء محاضرة هناك.. وطلبت منك أن ترافقني لتستمع لما أقول ونتناقش فيه فيما بعد لأقيم ما أقول… ولأتأكد أنني لا أخدع أحدا من الجانب الآخر فيما أقول، وخاصة عن التطور الذي بدأ يتبلور آنذاك داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، دافعا باتجاه حل "دولتين للشعبين".. وكنا قد تبنينا للتو في المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974 شعار إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية في كل شبر من الأرض يتم انحسار الاحتلال عنه.. ذهبت معي وجلست بين الجمهور دون أن يعرف أحد من أنت.. وعدت معي بعد منتصف الليل إلى القدس. كان لنا نقاش مطول بعد ذلك، وأقول أنني خرجت منه باستنتاجات كثيرة. كان أولها هو مدى الأهمية التي توليها أنت الثائر المناضل العسكري الخلفية والعقلية لمفهوم الحوار مع الإسرائيليين وأهمية الحوار الإسرائيلي – الفلسطيني.

وثانيهما أنني كنت صادقا فيما قلته للإسرائيليين وموفقا في نقل وجهة النظر الفلسطينية، وناجحا في فتح الباب لمزيد من التحاور والتداول على الساحة الإسرائيليــة…

ولعل هذه التجربة كانت وراء توجهك إلي بعد ذلك بأعوام مقترحا أن نؤسس معا جمعية الدراسات العربية لتقوم بدور رئيسي على الساحة الإسرائيلية… واعتذرت لأسباب خاصة حيث لم قادرا على التخلي عن وظيفتي آنذاك للدخول في مغامرة غير معروفة العواقب.

وتتوالى الذكريات.. إلى أواخر الثمانينات حين تم إطلاق سراحك من الاعتقال الإداري وسافرنا معا في أول رحلة لك إلى الخارج.. لنشارك في ندوة عقدت بمدينة ستوكهولم .. في أواخر عـام 1988.

كنا قد اتفقنا على تناول الإفطار معا.. وحين لم تهبط اتصلت بغرفتك فطلبت أن أنتظر قليلا.. جئت وآثار الانفعال على وجهك.. وبدأت تسرد علي كيف انزلقت في "البانيو" فكاد أن ينقلب بك.. قلت لك، تصور لو حدث لك مكروه لا سمح الله… في الحمام بفندق في السويد… وبدأنا معا نكتب قصة شفهية.. وجدوه ميتا في غرفة بالفندق.. ماذا ستكون ردود الفعل.. ماذا سيفعل الأصدقاء والأعداء..  ما ستقول أم العبد.. عبد القادر.. فدوى.. حنان عشراوي.. حنان عواد.. إبراهيم القراعين.. ريموندا الطويل.. جميل عثمان ناصر.. سري نسيبة.. أنيس القاق.. ولآخرون..

استعرضنا العديد من التعليقات فاخترنا بعضها.. "شقراء الموساد" من أول غزواته كسر عصاته.. "غشيم".. "ما بيعرفش يدبر حاله".. "والله كنت حاسس".. "مش قولتكم".. "والله أنا كنت دايما بدي أبوي يموت شهيد". كنت تستمع ونحن نضع هذا السيناريو.. ووصلنا إلى مرحلة التأبين.. قلت لـي ماذا سيقول د. سري نسيبة فـي تأبينـك.. بالطبع لم يخل التأبين من الدهــاء و….

كانت آخر مرة رأيتك تشعر بالمتعة وأنت تروي هذه القصة عندما تناولنا الغداء معا الصيف الماضي في غزة… كنت ترويها للمناضل سليمان النجاب.. تحدث هو عن تجارة الزيت التي حـاول أن يشغلك بهـا.. وحدثته أنت عـن تجربة ستوكهولم والموت الغامض في الفندق.

وتمضي الأعوام., لم أتخيل أنه بعد أثني عشر عاما ستموت وحيدا في غرفة الفندق بعيدا عن الوطن.. هذه المرة لم نكرر السيناريو الذي طالما أضحكنا جميعا.. فقط إبنك عبد القادر تذكر القصة.. وكيف أن سري نسيبة ألقى كلمة في تأبينك فاقترح أن يتحقق ذلك الجزء فقط من القصة التي كتبناها معا في فندق شتيرجنبرغر في ستوكهولم.. طلب أن يؤبنك د. سري نسيبة.. وبالتأكيد أن يقول ما توقعنا مازحين أن يقول.. سيكون جديا هذه الـمرة.

أخي أبو العبد،

الذكريات لا تنقطع.. والأيام تمضي.. وما يذهب لا يعود.. والحزن حين يعشش فانه يفقد قدرته عـلى الطيران ويظـل كسيحا راقـدا في العش الـذي وطده في حنايا القلب وخلايا الذاكرة..

كم أشتاق إليك.. وكم أحبك.. وكم يؤلمني أنني لا أستطيع أن أرفع سماعة الهاتف لأتحدث إليك.. وكم أذهب إلى فراشي متمنياً لو تزورني في المنام…

 

كل حبـي.. وحتمـاً لنـا لقــاء.

 أخوكم زياد أبو زياد – وزير شؤون القــدس

 عن مجلـة "عبيـــر"