جاري تحميل الموقع . يرجى الانتظار
رثاء 09 سبتمبر 2016

المحامي جواد بولس: عظمة فيصل تكمن في أنه كان محورا يجمع كل الأضداد والتناقضات

معركة القدس

معركة بيت الشرق، ومعارك أخرى كثيرة لا تقل أهمية عنها، حول تعزيز الوجود الفلسطيني في مدينة القدس، خاضها المحامي المعروف جواد بولس، المستشار القانوني لبيت الشرق ولفيصل الحسيني.

يقول جواد بولس: "علاقتي مع المرحوم فيصل الحسني تعود إلى خمسة عشر عاما، وقد بدأت هذه العلاقة من خلال متابعتي لقضايا تخص بعض المؤسسات المقدسية، حيث كان أبو العبد هو المرجعية الأولى لهذه المؤسسات.. كان ذلك في عام 1985.. توطدت العلاقات بيننا فيما بعد، حتى انتقلت للعمل معه بشكل شخصي أثناء اعتقاله والتحقيق معه.. وأصبحت العلاقة بيننا شبه يومية، تبدأ منذ ساعات الصباح الباكر، حيث اعتدنا على مهاتفة أحدنا الآخر صباح كل يوم، ثم نلتقي خلال النهار.. لم يمر يوم دون أن أراه.. رافقته في عمله خلال السنوات العشر الأخيرة.. وسافرت معه إلى عدة أماكن.. لم نكن نفترق إلا ساعة النوم فقط. كان كثيرا ما يوقظني عندما يسمع نبأ مزعجا، كاقتحام المستوطنين لبيوت في القدس، أو عندما تقدم سلطات الاحتلال على هدم بعض المنازل.. كان فيصل بالنسبة لي أكثر من صاحب عمل.. كان أخا وصديقا وأبا.

اعتقد أن أحد أهم الأمور التي أنهكته أنه كان يشغل تفكيره في كل صغيرة وكبيرة، يتابع شخصيا قضايا المعتقلين، وهدم البيوت، والمصادرة والاستيطان.. ولم يكن يهمل أي شيء.. كانا يحمل هموم وقضايا المواطنين جميعهم، ولم يكن يفرق بين صغير وكبير.. قضية أي إنسان بالنسبة له هي قضية فيصل الحسيني.. قلت له ذات يوم: يا أبا العبد، أترك هذه الأمور لنا، وتفرغ أنت لشؤون أخرى كالموضوع السياسي. كان يهزأ رأسه فقط، فأعرف أنه لا جدوى من الحديث معه في مثل هذه الأمور.. كان أحيانا يقول لي: "إذا كان هناك إنسان يعاني من مشكلة ما، فهذا يعني أن فيصل الحسيني يعاني من هذه المشكلة إلى أن تحـل".

لم يتخلف عن موعـد

يُتابع المحامي جواد بولس حديثه قائلا: كان فيصل طاقة لا تنضب.. فقد كان أحياناً يطلب مني المثول أمامه، والتوجه إلى بعض المواقع، وما أن أجهز نفسي وأصل الموقع تحت أجده قد سبقني إلى هناك، وكثيرا ما تكون هذه المواقع بعيدة عن القدس.. لم يتخلف يوما عن موعد، ودائما يتغلب على الظروف القاهرة، ويقول: ليس هناك ظروف قاهرة.. وكثيرا ما كان يجعلنا نخجل من أنفسنا إن أبدينا شيئا من التقاعس.. كان طاقة عجيبة.. احتوت كل عناصر العمل الجماهيري الشعبي المؤسساتي.. في نفس اليوم كان يقابل أمهام المعتقلين ومراجعي بيت الشرق، ودبلوماسيين أجانب، وشخصيات محلية وأجنبية، ويتوجه إلى مؤسسات وهيئات شعبية ودينية ورسمية، ويتجول في شوارع القدس ويذهـب إلـى غزة ورام الله لحضور الاجتماعات الرسمية كل هذه الأمور يقوم بها في نفس اليوم.

أغلب أوقاته كان يقضيها بعيدا عن بيته وأسرته وكان دائما يردد مقولته المعروفة، من يعمل معي يخسر أسرته.. لكنه يكسب المردود الوطني والاجتماعي.. وقد تبين فيما بعد أن حديثه كان صحيحاً.. حيث كنا نقضي أكثر من خمس عشرة ساعة يومياً في العمل، دون أن نشعر بمرور الوقت، لا بل أننا كنا نشعر بكثير من المتعة والراحة النفسية رغم التعب الجسدي.

كان دائماً متفائلاً

يُتابع المحامي جواد بولس حديثه عن فيصل الحسيني قائلا: من الصفات الهامة أيضا في شخصية فيصل الحسيني، أنه كان دائما متفائلا، كان يرى المخاطر والصعوبات جيدا، ولكنه كان يعمل جاهدا من أجل التغلب عليها وتذليلها.. أحيانا كانت الأمور تصل إلى درجة اليأس، لكنه لم يكن ييأس أبداً، وكان يتخطى كل شيء بحكمة ورؤيا واضحة، وكان يقول دائما: "علينا أن نقتنع دائما أن الحق أولا وأخيرا لقوة المنطق لا لمنطق القوة، وما دمنا نملك قوة المنطق فسنحظى بحقوقنا، لأن الحق وحده في مثل هذه الظروف ليس كافيا.. بل يجب أن ننقل صورة الحق بقوة المنطق".

وفي الحقيقة كان لاذعا ومقنعا في قوة منطقه.. لم يستخف بأحد، ولم يكره أحداً.. ولم أسمعه منه يوما كلمة نابية بحق أي إنسان مهما كان سيئا.. وكان يقول: "القضية أكبر بكثير من طاقة فرد أو حتى مجموعة صغيرة.. وما دام الجميع يعملون وفقا للمنطق والثوابـت والحقوق الفلسطينية، فيجب إفساح المجال للجميــع".

القدس والمؤسسات الوطنية

كانت لديه ثقة بنفسه، ومكانته ودوره الوطني.. ومنافسة الآخرين لم تكن تخدشه، أو تؤثر على عطائه.. كنت أتمنى لو شاهد هذا الحشد الجماهيري الشعبي خلال تشييع جثمانه من رام الله إلى القدس، ليعلم كم يحبه الناس، وكم هي مكانته عالية في أوساط الجماهير.

من الفواصل المهمة أيضا في حياة فيصل، أنه استوعب مبكرا أن القدس لن تصمد إلا إذا حافظنا على مؤسساتنا الوطنية فيها.. وبغض النظر من يكون وراء هذه المؤسسة وكأنها مؤسسته الخاصة، مستوعبا أن المحافظة عليها من شأنه أن يجعل المجتمع المقدسي متماسكا، وبالتالي يفوت على سلطا ت الاحتلال محاولة إذابته.

توجهت معه إلى دول عديدة عربية وأجنبية، لم أسمعه يوما يطلب شيئا لنفسه أو لبيت الشرق، إنما كان يحمل معه ملفات مؤسسات كثيرة صحية وتعليمية ونقابية وغيرها.. رغم أن بيت الشرق مرّ بظروف مالية عصيبة.. كنا نحثه على الاهتمام بمشاكله فكان يرد علينا قائلا: وماذا عن مشاكل الآخرين؟ أليست هي الأخرى مشاكلي؟

جنازة أبو العبد أثبتت للقاصي والداني كم كان هذا الرجل يتمتع بحب الناس واحترامهم.. إيهود أولمرت قال قبل رحيله بأيام: إن أهالي القدس لا يعيرون أي اهتمام لفيصل الحسيني، ولا يصغون إليه، وجاءت الجنازة لتقول لأولمرت وأمثاله: خسئتم، فنحن ما زلنا مجتمعا فلسطينيا متماسكا، وها هي الجماهير المقدسية تبكي بحرقة وأسى، لأن فيصل غاب عنها".

وحدة إسلامية، مسيحية

فيصل الحسيني كان حريصا دائما على تقوية العلاقات الأخوية بين جميع فئات الشعب الفلسطيني، وخاصة بين المسيحيين والمسلمين، فقد كان أبو العبد يرى أن حل قضية القدس يجب أن يأخذ خمسة أبعاد: الإسلامي والمسيحي واليهودي والفلسطيني والإسرائيلي.. ودائما كان يعامل المؤسسات المسيحية نفس معاملته للمؤسسات الإسلامية.. كان يتوجه إلى الجميع في حال ورود شكاوى. ويعمل جاهدا لحلها منصفا صاحب الحق.. مما جعل الجميع يشعرون بالطمأنينة.. وقد حاك فيصل نسيجا اجتماعيا ووطنيا متماسكا من خلال توطيد الوحدة الإسلامية والمسيحية.

وقبل أيام من سفره إلى الكويت، قام بزيارة لبعض الكنائس، وتحدث مع المسؤولين، واستمع إلى مشاكلهم، وكان يصغي بشكل جيد.. وقبيل سفره اتصل بي، وكلفني بوضع تصور لكنائس وأديرة لها مشاكل طرحت في بيت الشرق.

معركة بيت الشرق هي إحدى المعارك التي أبرزت جيدا شخصية فيصل الحسيني، خاصة في تعامله مع الإسرائيليين وجهازهم الأمني.. لم يقبل أبدا أي مساومة. مع إدراكه أن الموضوع قد يقود إلى انفجار.. وظل متمسكا بموقفه حتى الرمق الأخير، مجبرا الطرف الإسرائيلي على التراجع فقد كان واضحا له أن الأمر سياسي وليس قضائيا.. ومما زاده إصرارا وتمسا بموقفه أن الرئيس ياسر عرفات أزره وشد علـى يـده، وأيـد موقـفه حتى أجبر الإسـرائيليين على التراجع.

دائمـاً في مقدمة المواجهـات

الأمر ذاته في مفاوضاته مع جهاز الشرطة الإسرائيلي ، خلال معارك كثيرة مختلفة في القدس.. كان دائما في مقدمة المواجهات.. يعرض نفسه للخطر.. لا يخشى على حياته.. معارك كثيرة عرف خلالها الإسرائيليون من هو فيصل الحسيني.. الذي استطاع رغم أنف الاحتلال فرض الوجود الفلسطيني في مدينة القدس، وكان الطرف الإسرائيلي ولاعتبارات خاصة أهمها أنهم ليسوا معنيين بإقحام القدس في دائرة الصدام اليومي، يرضخون لتعليمات فيصل الحسيني الذي كان يرفض أي مطلب إسرائيلي يتعارض مع المصلحة الوطنية للشعب الفلسطيني.. كان يملي شروطه، وبعد مراوغة وصبر وأناة يجبر الطرف الإسرائيلي على قبول هذه الشروط.

كان يدرك تماما أنه إذا وافق على أحد المطالب الإسرائيلية فإن ذلك لن يتوقف عند حد معين – ومن خلال إيمانه بمبدأ السلام العادل والحقيقي كمطلب فلسطيني، كان أحيانا يميل إلى تهدئة الأمور لمساعدة أجواء المفاوضات، لكن دون التفريط بالحقوق والثوابت الفلسطينية.. ومن هنا كان يأتي التقاء وجهات النظر بينه وبين الشرطة الإسرائيلية أحيانا.. وهنا كانت تكمـن عظمـة فيصل الحسيني.

الرجل المرح.. خفيف الظـل

"كان أبو العبد إنسانا عاديا.. يتمتع بروح خفيفة، يميل إلى الدعابة والمرح.. خفيف الظل.. لا يحرج الآخرين ولا يجرح مشاعرهم.. علاقتي به تطورت إلى صداقة شخصية وعلاقة عائلية.. كثيرا ما كان يشكو لي همومه ومتاعبه الشخصية، لكنه كان دائما صاحب ابتسامة هادئة، لا تغيب عن محيـاه.

في السفر يصبح إنسانا آخر.. يداعب ويمازح من حوله.. وكانت له طرائف كثيرة.. فقد أطلق علي اسم "محمد جـواد بولس" لأنني كنت أعمـل معـه، حتى فـي عطلـة أعيادنا المسيحية.

أذكر مرة كنت فيها في عطلة عيد الفصح فهاتفني متسائلا: أين أنت؟ فقلت له: أنا في كفر ياسيف، احتفل بعيد الفصح، فاستهجن قائلا: أي فصح هذا؟ فقلت له: يا أبو العبد عيدنا.. عيد الفصح.. فقال أهكذا تتركني وتعطل في عيد الفصح، يا محمد جواد بولس؟ أدركت أنه يمازحني. لكنه طلب مني أن لا أستغل جميع أيام العيد للعطلة، وأن أعود إلى القدس، لأن هناك أعمالا كثيرة تنتظرني، أذكر أيضا من طرائفه، عندما كنا معاً في المغرب، فإذا به يهاتف زوجتي، وأنا بجانبه، ويسأل عن أحوالها، وعندها سألته زوجتي: أين جواد؟ فرد عليها قائلا: لا أعلم، خرج منذ ساعتين مع ابنة خالته.. حقا إنها فتاة جميلة جدا.. استهجنت زوجتي، وجن جنونها، رغم أنها تعلم أنه ليس لي أقارب في المغرب.. أخذت الهاتف منه لألف الجو، حتى لا يجن جنون زوجتي حقا، وتطير إلى المغرب بحثا عنـي".

رحمه الله، فقد كان صاحب نكتة ودعابة، ومهما تحدثت عنه، فلا يمكن للكلام أن يوفيه حقه.. إنـه بحاجة إلى مجلـدات للكتابة عنــه.

عن مجلة "عبيـر"