جاري تحميل الموقع . يرجى الانتظار
رثاء 09 سبتمبر 2019

 حسن البطل

 مات من كمـد

 في موت فيصل الحسيني دراما شخصية وفلسطينية، عربية وإنسانية أيضاً.

 القدس لا تشفع لحامل حقيقة القدس، وفلسطين لا تشفع للفلسطينيين،والانتفاضة لا تشفع لمنظمة التحرير"غلطتها الكويتية"..ولا للسلطة الفلسطينية سياستها في الحرب زمن السلم، وفي السلم زمن الحرب.

 الذي ولد في بغداد، زمن ثورة رشيد عالي الكيلاني 1940، مات، قهراً في الكويت التي لا تنسى، في زمن الانتفاضة، زمن الاجتياح العراقي الذي داهمها من الشمال.

 لننسى أن أبا عبد القادر "الصغير" هو أبو عبد القادر الكبير، وأن حارس "بيت الشرق" في قلب القدس الشرقية عضو في قيادة "فتح" وقيادة "م.ت.ف".

 لننسى أن فيصل الحسيني يعطي فضائيات الخليج صورة الذي يمشي في صدارة التظاهرة، إلى حراب جنود الاحتلال.

..وللشاشة الإسرائيلية يعطي صورة المحاور الذي يعرف إسرائيل كما لا يعرفها مليون روسي، ودهاليز أحزابها كما لا يعرفها نصف وزراء إسرائيل، وحواري القدس العتيقة كما لا يعرفها محصلو ضرائب "الأرنونا" البلدية الإسرائيلية.

 لكن، كيف ننسى محنة الحسيني، الأب والابن، ومحنة الشعب الفلسطيني، عندما يبقى المقال العربي والاسلامي عن القدس وفلسطين في واد سحيق عن المقام الفلسطيني؟

 ذهب الرجل إلى الديرة الكويتية حاملا مقام الزائر الضيف ومقال المناضل في وطنه، وحاملا قلبه الذي قد يحتمله، وقد يحتمل هموم شعبه.. وظلامات عدوه.. لكنه لا يحتمل "ذوي القربى" هؤلاء، الذين يقيمون علاقة استراتيجية بالبلد الذي يقيم علاقة استراتيجية بالبلد الذي يحتل مدينة الحسيني وأرض بلاده.. ثم يطالبونه بالتوبة عما اقترف القلب الفلسطيني من زلات اللسان، أو من الأماني.. أو من الحماقات العابرة، أو من الحسابات الغلط.

ذهب الرجل، من القدس وفلسطين.. وبلاد الانتفاضة، حاملا راية المصالحة، ومتحدياً نظرية كويتية خرقاء (في عالم اليوم وعالم الأمس) اسمها: "دول الضد"، وساعيا إلى ضم الكويت إلى "دول المع" التي تنصر فلسطين المظلومة، لو تطلب الأمر الصفح عن "فلسطين الظالمة".

 كان كبير الحسينيين، في زمانه، المفتي أمين الحسيني رجل زمانه، الفلسطيني والعربي والاسلامي، لكنه أحيل – في ذاكرة الهولوكوست اليهودية – إلى موقع قريب من الفوهرر، لمجرد أن صوت ألمانيا من برلين أعطاه ميكروفوناً يدعو فيه ضد سلطة الانتداب التي تزرع المشروع الاستعماري اليهودي في بلاده.

 كان كبير الحسينيين، في زمانه أيضا، القائد عبد القادر الحسيني عروبيا إزاء ثورة رشيد عالي الكيلاني العراقية – العروبية، وكان عروبيا في التماس العتاد العسكري العربي من دمشق. وكل ما فعله عميد الحسينيين الحالي، في زماننا الفلسطيني الحالي، أنه ذهب إلى بلاد حقول النفط، ليرسم لهؤلاء الأشقاء كيف تكون الحدود بين "التطبيع" والواقع، وكيف تكون بين "التتبيع" والواقع.. وبين حدود هذا وحدود ذاك، صمد "بيت الشرق" والقدس الفلسطينية تصمد، وفلسطين تصمد.

 لكن قلب الرجل، الذي يحتمله ويحتمل شعبه وعدوه، لم يحتمل هذا الخلط الشائن بين مقام الضيافة ومقال المضيف، وفي غرفته، المكيفة الهواء، فقع قلبه انقهارا، بينما كانت أعصاب الرجل هادئة في الحوارات الساخنة، والتظاهرات الساخنة.

 كان الرجل متفائلا بأن القدس لن تخلو من المقادسة وفلسطين – الدولة لن تخلو من القدس عاصمتها وقلبها. وكان يعمل ليل نهار من أجل ذلك.

 على أجنحة الانتفاضة، ذهب الرجل ليصالح الاخوان، لتخرج فلسطين من لعنة اسمها "دول الضد". هناك لم يحتمل قلبه، مات.

 في العام الذي نسميه عام النكبة، عاد عبد القادر الحسيني على عجل من دمشق إلى القدس، ومن القدس إلى القسطل.. لم يكن الدعم العربي كافيا لانقاذ فلسطين.

 في العام الذي نسميه عام الاتنفاضة الكبرى، ذهب أبو عبد القادر "الصغير" إلى الكويت سائلا الاخوة والمروءة إنهاء الأحقاد الصغيرة والقديمة، وحاملا راية المصالحة، ولم يكن القلب العربي هناك سمحا ورحباً.

 يأتي فلسطين زمن عجيب، وفيه تصبح "مصافحة العدو" أمرا منطقيا، و"مصافحة الشقيق" لن نحمل الأمور أكثر مما تحتمل من دراما شخصية وفلسطينية، عربية وإنسانية. مع ذلك فإن فلسطين قد لا تشفع لبعض العرب ظلمهم للفلسطينيين، والقدس قد لا تشفع لبعض العرب إهانتهم لرجل مقدسي جاء يسألهم معروفا. جاء يسألهم حقا. جاء يسألهم عقلا وعاطفة. فأعادوه إلى بلاده جثة هامـدة.

"الأيـــام"3/6/2001