جاري تحميل الموقع . يرجى الانتظار
رثاء 09 سبتمبر 2019

 هاني حبيب

فيصل الحسيني .. الفارس والزيتونـة!!

من بين مئات الصورة التي نشرتها الصحف وبثتها مختلف وسائل الاعلام للشهيد فيصل عبد القادر الحسيني، توقفت مليا أمام صورة له، وهو يستند إلى جذع شجرة زيتون، متمنطقا بالكوفية، فهذه الصورة تجسد في الواقع قصة حياة ونضال "أبو العبد" وتختصر الكثير الكثير مما يمكن أن يقال حول السيرة النضالية والكفاحية لرجل رضع القدس منذ طفولته المبكرة، لا نقول هذا الكلام عملا بالقول "أذكروا محاسن موتاكم" اذ نرى أن هذا الحديث الشريف، يذكرنا بضرورة احترام قدسية الموت، وعدم تحول هذا الأمر إلى مناسبة لنبش سيرة شخص ليس موجودا للدفاع عن نفسه، ونعتقد أن الأمر يختلف تماما مع فيصل الحسيني الذي يمكن فقط ذكر محاسنه وأخلاقياته ومناقبه، حيا وميتا، فالأمر يستوي لان كل ما يمكن أن يقال عن الشهيد فيصل الحسيني أثناء حياته، هو نفسه الذي سيقال بعد فقدانه.

في الصورة التي استند فيها "أبو العبد" إلى جذع زيتونة (الأيام 1/6/2001) يمكن أن نرى في "خلفيتها" صورة رجل ترعرع وعاش في ظل عائلة كريمة مناضلة، لكنه كان أكبر من هذه العائلة، لانه انتمى إلى العائلة الأكبر، فلسطين، ولم يستثمر عراقة عائلته وسجلها النضالي الطويل ليسطو من خلالها على مركز قوة أو منصب، بل خط لنفسه طريقاً خاصاً، لم يشذ عن قاعدة العائلة النضالية، إنما منح هذه القادة رؤيته النضالية الشخصية في طورها الراهن.

أسس الحسيني بيت الشرق، الذي أصبح رمزاً للعاصمة الفلسطينية المحتلة، ولم يكن هذا البيت مجرد رمز، رغم أهمية هذا الأمر لكنه أصبح مؤسسة بكل ما يحمله العمل المؤسسي من معنى ودلالات، خاصة في ظل العمل المؤسسي الفلسطيني فبات بيت الشرق "حكومة" معتمدا على هيكلية قادرة على أن تؤدي المهمات المعقدة في ظل صراح مرير مع عدو متمرس أخذ بناصية العلم والمعرفة والسلاحن وهكذا قام بيت الشرق، كموسسة وطنية فلسطينية، كان وما يزال، لها دور الريادة في جمع وتوثيق كل ما يحتاجه نضالنا الوطني وصراعنا المفتوح مع عدو متغطرس، يمتلك مل أدوات التزوير التي لم تصمد أمام الحقائق والخرائط والوثائق التي جمعتها مؤسسة بيت الشرق، من خلال أطقم عمل مؤهلة ومدربة وواعية ومزودة بالمعارف والعلوم والخبرات بالكاد توفرت في أية مؤسسة فلسطينية أخرى، ويتجاوز ما حققه الحسيني في هذا الأمر كل ذلك، عندما نجح في الابقاء على هذا الصرح حياً يرفرف عليه العلم الفلسطيني وسط العاصمة الفلسطينية المحتلة، رغم كل جهود الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في سبيل تدميره وتحويل حجارته إلى بناء مستوطنات جديدة.

ورغم أن الحسيني انضم إلى حركة فتح العام 1967، إلا ان انتسابه إلى الحركة الأمن دفعه إلى الاقتناع بأن الصراع مع إسرائيل يستلزم حشد كافة قدرات الشعب الفلسطيني، ما يهني الانفتاح والحوار واقامة العلاقات الكفاحية مع كافة الفصائل، مؤمنا بأن لكل فرد، ولكل حزب وفصيل دوراً مهما كان شأنه في النضال الوطني، لذا اعتبره كل فصيل عضواً فاعلا فيه من خلال الرؤية الشاملة للكفاح الفلسطيني على مختلف أشكاله النضالية.

في شوارع القدس وأزقتها، وفي المواجهات المستمرة مع الاحتلال، لم يشاهد الحسيني، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، مسؤول ملف القدس، تحرسه ثلة من الحراسات والمرافقين والسيارات، كان مناضلا عنيدا، ولن بتواضع العظماء، يطوف ويجول في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية دون حراسات، كما يفعل في المناطق الخاضعة للاحتلال، لانه يدرك أنه محروس بأفئدة شعب بادله الحب والعطاء، ولم يكن الحسيني مهووساً بالمظاهر وبزعيق أبواق المواكب، بقدر ما كان مهووساً بأن ينظر إليه الشعب كواحد من أبنائه المخلصين.. وقد كان!

لم يكن الحسيني مناضلاً تلفزيونياً، اذ غيب أو غاب عن شاشات الفضائيات، بكل جنسياتها وألوانها، إلا عندما تضطر الكاميرات إلى تغطية الفعاليات والصدامات مع الاحتلال، أو عندما تغطي الكاميرا مظاهر هدم البيوت وتجريفها من قبل سلطات الاحتلال، حينها فقط يظهر الحسيني في الصورة بالرغم من عدسة الكاميرا التي التقطته أكثر من مرة بعد اصابته على يد جيش الاحتلال أو المستوطنين الصهاينة، وفي المرات القليلة التي ظهر فيها الحسيني كضيف، كان قليل الكلام يتحدث في الموضوع ويجيب على الأسئلة، دون إطالة أو تكرار، أو حديث إنشائي وشعارات مكررة باهتة دون معنى.

الشائعات العديدية التي طالما معظم المسؤولين الفلسطينيين، سواء تلك التي تبثها وسائل الاعلام وأجهزة الحرب النفسية الإسرائيلية، أم تلك المنطلقة من داخل المناطق الفلسطينية، كلها لم تجرؤ على أن تجعل من الحسيني هدفا لها، لم تستهدف هذه الشائعات هذا الفارس النبيل ولم تقترب منه، فالرجل عفيف اليد يقظ الضمير، انشغل لكي يُعطي ويُعطي، مكتفيا بنيل رضا شعبه واحترامه، وقد نال ذلك عن جدارة واستحقاق.

فيصل الحسيني، الرجل الذي انتمى إلى عائلة اسلامية شديدة الورع والتقوى، عشق مدينته، عاصمة بلاده، القدس، بكل حجر فيها، ونجده وهو يقدس هذه المدينة العريقة، إنما يقدس أيضاً معابدها الدينية المسيحية والإسلامية، بحيث كان من الصعب إيجاد أي نوع من التعصب الديني الأرعن، ما جعل من كل مواطني المدينةن من مسلمين ومسيحيين، هم رعايا "أمير" العاصمة المقدسـة.

الاعلام الفلسطينية التي ارتفعت في عنان سماء القدس، أثناء وداع الشعب الفلسطيني لقائده العظيم، عربون وفاء للاعلان عن تحرير هذه المدينة التي ظل الحسيني يحلم بأن يرفع علم فلسطين السيادي على قبابها وأبراج كنائسها، وها هو يفعل ذلك، لعدة ساعات، أكدت خلالها المدينة المقدسة، إنها تبادله نفس القدر من العشق بكبرياء أذهب جيش الاحتلال إذ لم يكن بامكانه أن يدرك هذه الوشائج النضالية والروحية التي تربط بين هذا الفارس النبيل ومدينته التي تجرأت على أن تتحرر وهي تبكي فقيدها الغالي.. وتمنح بكل كبرياء الأمل المؤكد بأن يوم التحرير قادم لا محالة. هذا ما قالته الزيتونة للفارس الذي استند إلى جذعها ليسمع منها سر الأسرار! 

المصدر: جريدة "الأيام" 3/3/2001