جاري تحميل الموقع . يرجى الانتظار
رثاء 05 مايو 2023

 شريف الحسيني

وفاء لذكراك... كلمات له، لنا، ولكم...

 كنت تزور النيل، واليرموك، والأردن ودجلة والفرات وبردى والحاصباني وكل سواقي الوطن، ودوماً كنا نعود...

  1. عائد... لا محالة

صبيحة الحادي والثلاثين من أيار الماضي، حين دخلت غرفتك في ذلك الفندق، كان علي أن أعود، وبك، إلى حيث كنت ترغب، وكم كانت رحلة العودة تلك قاسية وموحشة.

كنت أنا العائد إليك منذ سنوات، من صحبة غسان كنفاني ووديع الحداد، إلى حيث كنت تريدني أن أعود. كانت دعوتك لنا جميعاً أن نعود، أن ندخل بطن الحصان: "لا تسألوا نـوع الخشب، لا تسألوا إن نـاله العطب، بل ادخلو، واجعلوا من دخولكم بداية العمل لا نهاية الأمل".

كان علي صبيحة ذلك اليوم أن أعود بك في حصان خشبي لأسلم للأهل والأحبة وللقدس وفلسطين، أمانة شاء الله أن أعود بها إليهم.

كانت ساعتا الطيران من الكويت إلى عمان دهراً، كما كانت دقائق العودة من عمان إلى رام الله مئات، بل آلاف الثواني – أو لم تكن تحسب القدس بكل مقاييس الزمن – وكم طالت بنا، على متن ذلك الحصان الطائر العائد إلى أرض الوطن.

يقولون إنني قبّلت أرض فلسطين بعد أن حطت بنا الطائرة، هل كنت في ذلك أعيد الأمانة إلى أرضها وإلى أهلها؟ ألم تقل لهم: "أن انزلوا من بطن الحصان"، وقد اعتبرت أنت، انتفاضة الأقصى ذلك النزول العظيم.

كنت تقول لنا، ولهم، وللجميع: "يجب أن لا نفزع من حجم خسارتنا، سواء بالأرواح أو الممتلكات". هل كنت تدرك أنك من ضمن تلك الخسائر؟ ألهذا كنت مسرع الخطـى نحو قدسك.

إن من سار معك، إلى القدس وباتجاهها، ورغم الحزن والأسى الذي أدمى قلوبهم، والدموع التي انهمرت من مآقي الأطفال والشباب والشيوخ، رجالا ونساء، من على ضفاف نهر عودتك إلى أبيك وجدك، ما كانت فزعة بل متحدية بشموخ ليس له نظير.

هل رأيهم يا أبا العبد يدخلون القدس بك محررين ملوحين بهوياتهم البرتقالية والخضراء في وجه قوات الاحتلال؟ هل كنت تشعر كيف كان حصانك الخشبي يتطاير فوق أكف محبيك، وكيف تهافت البعض ليلمس عودتك؟

أعرف كم كنت تحلم بعودة شعبنا: "نحن هم أوائل القرن الماضي، علينا أن نعود تحت مختلف الظروف والأعلام". كانت "العودة" بالنسبة لك حقاً، ولم تكن تهديداً لأحد، كنت تريدها عودة إلى الأمام وليس خطوة إلى الخلف. كنت تعرف أن الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني قد يخلف "رعباً" وليس خوفا لدى خصومنا، لذا كنت تقول إن الاعتراف بمسؤوليتهم التاريخية عن معاناة شعبنا هو المدخل الطبيعي نحو إعطاء كل ذي حق حقه.

          كنت تعطي المهلة وتقول: قد يأتي يوم يبحث فيه الآخرون عن نيلسون مانديلا.

          هل يصغي العقـلاء؟

          نعم: أجراس "العودة" فلتقرع.

  1. بين منطق... ومنطق

سمعتك مراراً وتكراراً، تشرح قضية القدس وأوضاعها لشرائح مختلفة من المستمعين إليك – وكم كانوا كثراً في كل لقاء – تتحدث إليهم وببساطة وموضوعية بأن نهاية القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين ستفرض مجموعة من المفاهيم الإنسانية المختلفة عن مفاهيم القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

كنت تقول أن "منطق القوة" لن يصمد طويلا أمام "قوة المنطق".

كنت تقول علينا جميعاً أن نستيقظ من أحلامنا لنعمل على تحقيق ما نستطيع من تلك الأحلام.

كنت تقول إن المستقبل لن يحتمل بقاء دويلات صغيرة – وتعلو ابتسامتك المازحة – لتقول: مثل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا – فما بالكم بمنطقتنا من العالم.

كنت ترى ضرورة قيام "دولة فلسطينية" ليس حباً بقيام كيان إضافي، وإنما باعتبارها ضرورة تاريخية تجعل منها جسراً تعبر عليه كافة دول المنطقة نحو التعاون والتقدم.

كنت ترى خطاباً عربياً – إسلامياً/مسيحياً منفتحاً على العالم بأسره. كنت ترى ذلك الخطاب قدساً دافئة ونيرة لا بقعة الظلام التي يمكن أن تبتلع كل آمال السلام.

كنت ترى الأوهام قابلة للزوال، إذا ما اقترن العمل الجاد بالصبر والصمود.

كنت ترى الحق قابلا للتحقق، إذا ما وقف الجميع متساوين أمام الله.

كنت ترى الضرورة في احترام أراء الآخرين، دون أن يكون ذلك شرطاً للخضوع لتلك الآراء،

كنت تختلف مع الآخرين، ومنهم من كان عدواً لك، وما كان ذلك الاختلال مدعاة لوقف الحوار أو لحقد يرسخ في القلب.

أو لم تكن تلك الصلاة النابعة من نفس ملؤها الإيمان والتواضع والإنسانية.

ألم تكن أنت القائل:

اللهم إن الصدر مليء بالمرارة.. فلا تحولها إلى حقد.

اللهم إن القلب مليء بالألم فلا تحوله إلى انتقام.

اللهم إن النفس تملؤها المخاوف.. فلا تحولها إلى كراهية.

اللهم إن الجسد منّي ضعيف.. فلا تحول ضعفي إلى يأس.

اللهم إني عبدك القابض على الجمر.. فأعنّي على الثبات والصمود.

اللهم إن الإيمان محبة..

اللهم إن الإيمان تسامح.

اللهم إن الإيمان يقين..

اللهم لا تطفئ شعلة الإيمان في صدري..

اللهم إنا أردنا الانتفاضة بيضاء فاحملها..

اللهم إنا أردنا الحرية لشعبنا ولم نود استعباد الآخرين..

اللهم إنا أردنا بيتاً لشعبنا يلم شتاتهم ولم نسع لتدمير دول الآخرين ولا لهدم بيوتهم..

اللهم إن شعبنا مجرد من كل شيء إلا الإيمان بحقه..

اللهم إن شعبنا ضعيف إلا من الإيمان بالنصر..

اللهم امنحنا القوة والثبات لنبقي هذه الانتفاضة البيضاء..

اللهم امنحنا اليقين والرحمة والتسامح في صفوفنا ولا تجعلنا حرباً على أنفسنا..

اللهم اجعل الدماء التي سالت نوراً يرشدنا ويهدينا ويشد من عضدنا..

ولا تجعلها وقوداً للكراهية والانتقام..

اللهم أعنّا على عدونا لنعنه على نفسه.

اللهم هذه صلاتي لك.. ودعائي.. فاسمعها واستجب لها واهدنا سواء السبيل.

أليس ذلك هو "منطق القوة" مجتمعاً بلا انقسام مع "قوة المنطق"؟

  1. بين بديل... وشريك

كثيرون كانوا يطرحون السؤال، هل كنت بديلا أو رمز خصام، هل كنت ترى في نفسك منافساً لمن كانوا يعتبرون أنفسهم بدائل أو خلفاء؟

كنت تحجم دوماً عن الخوض في هذا الترف الزائف، واعرف تماماً، كما يعرف الآخرون، أنك ورغم ما قد شاب التجربة من ألم عميق في حالات متعددة، إلا أنك ما ترددت يوماً في أن تنأى بنفسك الأبية عن كل ما أحاط الموقف أحياناً من الغموض وضعف الرؤية.

كنت تقول فأشهد أن خصومك قلة وأصحابك كثيرون.

جئتك قبيل انطلاقة انتفاضة الأقصى بأيام وقلت لك أنهم يحاولون انتقاءك شريكهم، بعد أن راح البعض منهم يعلن أن لا شريك لهم، كانت ابتسامتك الساخرة وتعليقك المتواضع: "أهكذا وبكل "ديمقراطية" يريدون ذلك؟"

ورحنا نتكلم بعدها عن أساليبهم "الديمقراطية" نيابة عن الآخريـن.

  1. كم كنت تقرع الجدران.. والآذان

كنت تذكر بين الحين والآخر، يوم عرضت قضية القدس أمام مجلس جامعة الدول العربية، كيف أن التاريخ قد يعيد نفسه.

في مطلع نيسان من العام 1948، كان عبد القادر يقرع جدران الخزان العربي في دمشق، وكان فيصل يقرع الخزان ذاته مراراً وتكراراً دون يأس أو كلل...

          كان الخزان أن يضج بكلمات:

"أعدكم صموداً، فإن وعدتمونا دعماً، أعدكم نصراً"

          هل سيبقى فيصل يقرع جدران الآذان؟

  1. حكاية الملف

يتبادر إلى ذهن البعض سؤال حرك، بل أسئلة طرحت مراراً عبر السنوات منذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1993. لماذا كان ذلك الإصرار العجيب من قبل أبي العبد على اختراع "ملف القدس" منصباً لنفسه، ولم يتقدم إلى انتخابات المجلس التشريعي أو تحمل مسؤولية وزارة من وزارات السلطة الوطنية الفلسطينية.

كان إصراره العجيب ذلك ينبع من التزام عميق بقضية القدس وشعوره بأن خير ما يتبوأ من مراكز رسمية هو في كونه "عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية / مسؤول ملف القدس"، ولم يكن في ذلك متعاليا عن منصب وزاري، بل على العكس كان يعتبر نفسه ومن خـلال موقعه كعضو في اللجنة التنفيذية مسؤولا عن كل ما يمت لقضية الشعب الفلسطيني بصلة.

سألته يوماً لماذا كان يحرص على ألا يترك لسلطات الاحتلال فرصة لسحب هويته المقدسية، ضحك ساخراً يوم أن قرر بعضهم ذات يوم سحب بطاقة "شخصية مهمة VIP" منه، وهو الذي يرفض الحصول على مثل هذه البطاقة التي لم يكن بحاجة إليها أصلا.

فكان جوابه المنطقي أنه بذلك يتمسك بمواطنيته المقدسية التي امتدت عبر أبيه وأجداده، جيلا وراء جيل وعبر قرون متعاقبة، ولن يسمح بإفساح المجال أمام أية جهة أو شخص كان، أن يحاول تجريده من تلك الصفة.

في ظني أنه كان يرى القدس رمزاً لكل الوطن، ويرى المقدسيين مرابطين بها إلى يوم الدين.

 

  1. بين بغداد.. والكويت

لعل مولده في بغداد في العام 1940، يوم كان والده والعائلة في رحاب ما كان يعتبره الوالد يومئذ بأنها "بروسيا العرب" – رغم ما تعرض له عبد القادر من ملاحقة واضطهاد إثر انحسار حركة رشيد عالي الكيلاني، أو سواء ما تعرض له فيصل نفسه في أعقاب حركة عبد الوهاب الشواف في الموصل من ملاحقة واضطهاد، فقد بقي خطاب الفيصل واضحاً وجلياً في اليوم الأخير من حياته، عندما خاطب أعضاء لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الأمة الكويتي قائـلا: "إن الخسارة التي لحـقت بالأمـة العربية في العقد الأخير من القرن الماضي (1990-2000) قد أصابت الشعب الفلسطيني بأفدح الخسائر وأخطرها على مصير قضيته، لقد خسرنا نحن الفلسطينيين حليفنا الدولي من جهة، وحليفنا القومي من جهة ثانية، وحليفنا المالي من جهة ثالثة"، وفوق ذلك كله أضاف قائلا: "لقد صرف العرب نصف مدخراتهم – وأهل الكويت في طليعتهم – على بناء جيش "بروسيا العرب"ن وصرفوا النصف الآخر من تلك المدخرات لتدمير ذلك الجيش. لقد آن الأوان أن تنهض لتضمد جراحها وتتجاوز الظروف العصيبة التي مرت بها".

كان فيصل ينظر للكويت كفلذة من فلذات هذه الأمة، يفتخر الفلسطينيون الذين عاشوا على أرضها بأن لهم الشرف بأن ساهموا في بناء هذه القطعة، جهداً وعرقاً ودماً، جنباً إلى جنب مع أهلها، ولسوف يبقى أولئك الذين زاد عددهم على نصف مليون فلسطيني قبل العام 1990، يحتفظون بوفائهم للشعب الكويتي الشقيق.

كانت رحلة الوداع في الكويت من قبل ذلك الفارس الذي ولد في بغداد، وعاش طفولته في السعودية وشبابه بين مصر والعراق وسورية، تأكيداً على ذلك التلاحم بين شعبنا الفلسطيني وشعوب أمتنا العربيـة.

سيبقى الأوفياء يذكرون جهده المتواضع كمواطن عربي، من أجل حرية الجزائر واليمن اللتين اعتبر تحررهما خطوة على طريق تحرير فلسطين.

  1. هل اشتريت زمان القدس؟ أم أن القدس اشترت زمانها؟

كم كنت تهاب لحظة أن يبكي القدس، أبناؤها

وأنت لم تكن تخشى بكاء القدس، أبناءها.

كنت تصرخ: اشتري زمناً في القدس.

وكنا حولك نعيش جهدك المتواصل من أجل القدس وأهلها وصمود مؤسساتها.

لم يكن بين يديك من الأموال ما يكفي لتشري زمان القدس بكامله،

هل أثقلتك الديون من جراء ذلك؟

ملكت الزمان، ملكت المكان

ولم يبخل القلب.

بما تشتهي،

وقلت للقدس آن الأوان

فلم يبقَ فيها ثوان

اشترت زمانها قدس فيصل

فاهنأ بها مدى الدهـر

وارو بهـا،

بنهرك دوماً

بنبضك دوماً

بعزمك دوماً

وإيمان شعبك بأنك باق

وغيرك باق على العهد باق

بمصر الكنانة، وأرز الشموخ

بأرض الجزيرة أو في العراق

بأرض الشام وأقصى البلاد

وفي جندها، وفي كل قطر

نشيد أكيد

ورجع الصدى

على العهد باقٍٍ، على العهد باق،

على العهد باق

 

جريدة "الأيام" 10/7/2001