جاري تحميل الموقع . يرجى الانتظار
رثاء 09 سبتمبر 2019

 العقيد محمد دحلان رئيس جهاز الأمن الوقائي في قطاع غزة

فيصل كان عمود الخيمة في الحركة الوطنية بالداخل

كان فيصل الحسيني مفاوضاً بارعاً وعنيداً… فقد عرض القضية الفلسطينية بطريقته الخاصة المقنعة.. وعندما تعرضت منظمة التحرير الفلسطينية للعدوان ولمحاولة الالتفاف على شرعيتها من قبل إسرائيل والولايات المتحدة، كان "أبو العبد" من أبرز الشخصيات التي زرعت في عقل الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية أن العنـوان الـوحيد للشعب الفلسطيني هي منظمة التحرير الفلسطينية، وليس هنـاك بديل لهـا فـي أوساط الشعب الفلسطيني.

هكذا تحدث محمد دحلان رئيس جهاز الأمن الوقائي في قطاع غزة عن الراحل فيصل الحسيني.. كما تحدث في هذا اللقاء أيضاً عن حب الجماهير الفلسطينية في غزة لفيصل، وقال إن ذكراه ستبقى خالدة في جميع القلوب التي أحبته وأحبها بصدق وإخلاص.

يقول محمد دحلان: "كانت بداية العلاقة في عام 1982م، حيث أن فيصل الحسيني هو عمود الخيمة الفلسطينية، في الحركة الوطنية والحركة الوطنية بأسرها داخل الوطن.. كل الفعاليات الوطنية كانت تتم بالتنسيق مع فيصل في غزة، لأنه لم يكن لنا في غزة أي عنوان سياسي بمعنى الكلمة، إلى حين خروج الأخ المناضل أبو علي شاهين من السجن. خلال تلك الفترة كان "أبو العبد" هو المرجعية المعنوية لنا في العمل التنظيمي، حيث كان له حضور جدي وفاعل في قطاع غزة، وله محبة بين أبناء القطاع وقد تفوق محبة الناس له في أي مكان آخر.. وفي اعتقادي فإن فيصل سيبقى في قلوب المواطنين في كل بيت في قطاع غزة، فهو لم يترك مناسبة وطنية إلا وشارك بها، كما ولم يترك أي فعالية هنا إلا وجاء وتضامن معها.. وكان هذا يعتبر في تلك الفترة حالة غريبة.. وهي أن يأتي قائد فلسطيني من الضفة الغربية، هو الأكثر قدرة وفاعلية في العمل السياسي والتنظيمي، لمشاركة الناس فعالياتهم الوطنية هنا في جميع أنحاء القطـاع.

كانت غزة في تلك الفترة قد أخذت طابعاً عسكرياً، وليس تنظيمياً أو ثقافياً أو اجتماعياً.. فمنذ بداية المشوار السياسي العلني لمنظمة التحرير الفلسطينية داخل الوطن المحتل، وبدء العمل الجماهيري، كان فيصل الحسيني سببا رئيسا في نجاح هذه الحركة الجماهيرية، حيث أنه لم يترك مجالا إلا وشارك به، على المستوى الاجتماعي والسياسي والتنظيمي.. حتى القضايا الاجتماعية والعشائرية لم يترك فرصة إلا وكانت له بصمات فيها، ومن أبرزها حين نشب خلاف في بداية الثمانينيات بين حركة فتح وحركة حماس، فقد كان لتدخله المباشر الأثر الإيجابي والفعال في فض الخلاف.. فقد عمل أياماً طويلة وبشكل متواصل من أجل وضع حد لذلك الخـلاف.

فيصل الحسيني كان مسموحاً من قبل جميع الأطياف، كان الكل يحترمه، ويحظى باحترام كافة الفصائل الوطنية والإسلاميـة.

عرفت أبو العبد في بداية المفاوضات.. كان مفاوضاً عنيداً، حيث عرض القضية الفلسطينية بطريقته الخاصة.. كان أميناً محافظاً على مصالح الشعب الفلسطيني، وعلى حيوية واستمرارية منظمة التحرير الفلسطينية خاصة عندما تعرضت للعدوان، ولمحاولات الالتفاف على شرعيتها، كان فيصل من أهم وأبرز الشخصيات التي ثبتت وزرعت في عقل الولايات المتحدة الأمريكية، والمجموعة الأوروبية أن العنوان الوحيد للشعب الفلسطيني هو منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى رأسها الأخ القائد ياسر عرفات. كان ذلك عندما كانت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة تسعيان للبحث عن بدائل لقيادة منظمة التحرير.

في المفاوضات تميز فيصل بمواقفه البارزة في قضية القدس، لأنه كان يعرف تفاصيلها الميدانية.. فهو يحفظ القدس عن ظهر قلب.. تاريخها وحضارتها.. ماضيها ومستقبلها.. كانت لديه حلول إبداعية قائمة على أساس أن القدس الشرقية هي العاصمة للدولة الفلسطينية.

حمل فيصل ملف القدس بأمانة، وحماه حتى وفاته، وسلمه لمن بعده في أحسن صورة.. فقدته القدس، وفقده الشعب الفلسطيني كفارس وأستاذ كبير متواضع، وبوفاته فقدت القدس معلما من معالمها الحيوية، التي تجسد في شخصية فيصل الحسيني.

نحن كشعب فلسطيني لا تتمسك بأشخاص ولا بأفراد، ولكن لا يمكن لأحد أن ينكر دور الفرد في التاريخ.. وفيصل كأي زعيم، اسمه كان ملتصقاً دائما بالقدس.. فكلمة فيصل الحسيني تعني القدس، وفيصل كان عنواناً بارزاً ومشرفاً للقدس.. والقدس شرفت فيصل ليكون حامي هذا الملف الهام.. وفيصل شرف أبناء القدس حينما مثلهم على أحسن وجه. فيصل الحسيني ليس زعيماً تقليدياً، بل هو حالة استثنائية.. فقد كان يعمل بجدية متكاملة.. وفي نفس الوقت لا تخلو لحظة من لحظات عمله أو اجتماعاته معنا من لحظات مرح. نكتة خفيفة، وصدق في المشاعر، وتعبير مختصر عن جوهر القضية، ولب الموضوع الذي يتحدث عنه، في اعتقادي أن موضوع القدس واضح ومعروف لكل المفاوضين الفلسطينيين، لكن فقدان فيصل كرمز للقدس ليس أمراً سهلا.. أما بالنسبة للمفاوضات حول القدس فالرؤيا واضحة تماماً لجميع أعضاء الوفد الفلسطيني، وللقيادة الفلسطينية، وهي أن القدس الشرقية بشوارعها.. بمساجدها.. بكنائسها.. بمعالمها التاريخية.. بمساحتها الجغرافية.. بأبنيتها القديمة، محفوظة عن ظهر قلب، لكل مفاوض فلسطيني، ونحن استفدنا كثيراً من تلك التفاصيل الدقيقة، التي كان فيصل الحسيني يطرحها في تلك الاجتماعات، وقد حفظنا هذه التفاصيل كلها في قلوبنا، ولا يمكن في يوم من الأيام أن ننسى شيئاً منها، أو نفرط بشيء مهما كـان صغيـراً.

وعند سؤاله عن الاستفزازات التي تقوم بها سلطات الاحتلال حول المسجد الأقصى قال دحلان: هذا الأمر ليس جديداً.. لأن إسرائيل ومنذ عام 1967م تعمل جاهدة لتهويد القدس ولتهويد المسجد الأقصى، ولكن أبناء القدس، أبناء منظمة التحرير الفلسطينية حافظوا على هوية القدس وعروبتها، وناضلوا وضحوا كثيراً من أجل ذلك، وقد عمدوا تلك التضحيات بدماء شهدائهم، وصمود معتقليهم.. وبصمودهم وثباتهم في كل حي من أحياء القدس.. وبالتالي فإن جميع هذه المحاولات الخبيثة سوف نواجهها بكل طاقاتنا وإمكانياتنا، وبالتأكيد فان جميع هذه المحاولات ستكون فاشلة، لأن هوية القدس وعروبة القدس لن تستطيع إسرائيل محوهـا بأي إجـراء كـان.

فيصل الحسيني ترك إرثا ثمينا سيحافظ عليه الشعب الفلسطيني.. لقد ترك إنجازاً عظيماً أفنى حياته من أجله.. كما ترك أخلاقا وقيما سوف تخلده إلى الأبد.. ويكفي فيصل الحسني أن اسمه قد التصق باسم القدس، وبأعظم قضية سياسية ودينية على وجه الكرة الأرضية.. وكلي ثقة بأن شعبنا الفلسطينية الجبار قادر على أن يحافظ على هذا الإرث الذي تركه له فيصل الحسيني.. وذلك بالسير على خطاه، ومواصلة المسيرة التي تقدم فيها خطوات جبارة حتى تحرير القدس عاصمـة للدولة الفلسطينية.

"عن مجلة عبيـر"