جاري تحميل الموقع . يرجى الانتظار
رثاء 09 سبتمبر 2019

غسان تويني

أمير السلام المقـدسي...

 بعد مقتل فيصل الحسينيي.. نعم مقتل، إذ ماذا غير ذلك يصح في موت أمير السلام المقدسي "قهرا" وفي الظروف التي انفجر فيها قلبه، وربما الدماغ كذلك.

نعم قتلوه، قتله العرب بقدر ما قتله الإسرائيليون... وكان قهر ذوي القربى الأشد مرارة.

بعد مقل وريث بطولة معركة القسطل، وخليفة الحاج أمين، وبالذات في أحرج ساعات المأزق الفلسطينية، أولا يحق لنا أن نتساءل عما إذا كانوا، في قمم الدول – كلها ولا استثناء – يريدون لنا أن نصير "أمة المآتم" وكفــى.

نعم، عرب المآتم، وقد صارت مواكبها اليومية على تزايد، يسودها الغضب والغيظ، أكثر من الحزن... وكدنا نقول أكثر من الصلاة، لولا أن الشهداء الذين تشيعهم فلسطين والعرب أجمعون تلفهم أكفان الإيمان بالله والأرض، "أحياء عند ربهم يرزقون" وقد ماتوا على شهادتين: الفداء واليأس...

الفداء إيمانا بالذات، أما اليأس فمن حكم طواحين الكلام وبيانات الاستنكار ومؤتمرات المقررات تؤكد المقررات، ولا من يبتلون حتى فلس أرملة، فكيف بملايين العهر والطبر؟ وعرب المستقبل؟... من، ومتى؟

ليسوا عرب الحكم الغرقى في سباتهم التاريخي العميق.. عرب المستقبل هم مئات الالوف من الفلسطينيين الذين استرجعوا القدس ولو قدر صلاة ليستودعوا أرض المسجد المقدسة جسد حسينيها، أمير السلام المقدسي..

بينما كان فتى – بالكاد يخلف اسمه – يلملم عدة الانتحار، إنما قاتلا معه عشرات الاسرائيليين من جيله الغارقين في لهوهم بينما دباباتهم وطائراتهم تحصد البقية الباقية من مدائننا، وسنابل السلام في الحقول المحروقة.

عرب المآتم؟.. نعم إنما في وجه إسرائيل المنقبلة عليها مجازرها، تغرقها في الرعب واليأس.

اليأس.. ولكنه يأس جبان، أين منه يأس العرب الدافع بشبابهم إلى الفداء.. إلى حد تبدو معه حتى "أمة المآتم" هي الأقوى إنما بسحر الفداء.. أقوى من غسرائيل المجازر الجبانة، أسيرة الغرق في دماء جنونها، بل الخراب الذاتي الذي وحدها تصطنع!!!

نعود إلى الأمر المصيري الحقيقي..

إلى أين "قضية الشرق الأوسط" (ولا نقول "القضية الفلسطينية" بالذات) في عالم لا تبدو فيه "أداة سلام" قادرة على الوصول بالفرقاء، كل الفرقاء، إلى اتفاق ولو مؤقتاً ثم تحصين الاتفاق وضمـان استمراره؟

ونوضح:

1-       الأمم المتحدة مشلولة، تعطل دورها منذ فشل مجلس الأمن في إقرار إرسال قوة لحماية "وقفة سلام" في غزة فضلا عن حماية الفلسطينيين من عدوان صار كالمطاردة براً وبحراً وجواً..

2-       أوروبا ومعها حلف شمال الأطلسي تعرف أن اختباراتها في يوغوسلافيا والبلقان لا تشجعها على القيام بدور يطالبها به العرب، فتكتفي بالبيانات الطوباوية والمطالبة بدور ما حين يحين آوان السلام.

3-       التباعد الدولي (حتى لا نقول الحرب الباردة) بين واشنطن وموسكو يجعل الدعوة إلى استئناف "مؤتمر مدريد مكرر" برئاسة ثنائية أمرا يقارب المستحيل، فضلا عن أن حتى الرئاسة الثنائية لمؤتمر عتيد لا تضمن التزام فرقاء "مستحدثين" منذ مدريد الأولـى، أبـرزهم إيران مثلا، ومـن يدري، ربما بعض دول منظمة المؤتمر الاسلامي الأخرى.

4-       "الدور الانفرادي" الذي قامت به واشنطن كلينتون، من "كامب ديفيد" إلى "شرم الشيخ الساعة الأخيرة" ليس ما يدل على أن واشنطن جورج بوش مستعجلة في الوصول إلى مثله، وتحمل مسؤوليته ومترتباته.. لا بل نرى أن المسعى الأمني المتواضع، على مستوى "المبعوث الخاص" السفير بيرنز، يكاد يستهلك "تقرير بعثة ميتشيل" وما كان يمكن أن يترجمها عمليا.

لقد أثبت شارون عبر تاريخه العسكري والسياسي أنه لا يرتجل خيارات العنف، وإذا ما هو انطلق فيها، تجاوز منطق المعقول والمقبول، وتعطل حتى احتمال التعامل معه بـ "منطق" الممكن والمستحيل...

فمن يدري؟.. لعله يتمنى ضمنا ألا يتحقق وقف إطلاق نار، وإذا تحقق فهو سيطيل أمده ولا نتيجة، فيعود من جديد إلى التهويل، بنفاد الصبر... "الصبر" على ماذا؟... على ماذا... غير استدراج الفلسطينيين من جديد إلى حلقة العنف المفرغة؟... "المفرغة" بل المتمثلة بلؤم الإسرائيليين وإجرام شارون الانتحاري!!

 أمر واحد قد يجعل شارون يرتدع من ادعاء "نفاد صبره" ويجعل العالم يشعر بضرورة ابتكار أداة تدخل فعالة، هذا الأمر هو نفاد صبر العرب.. عرب الشعوب التي تعبت من أن تدخل التاريخ جنازة تلو جنازة.

 فهل في العرب "فيصل الحسيني" آخر يعود يحيي حلم السلام، فيطلق مبادرة تفرض على الدول التجاوب معها... مبادرة تاريخية عظيمة، تتجاوز مستوى إطلاق نار من هنا ووقف إطلاق نار من هنـاك...

 مبادرة تنقذ العرب – لا فلسطين وحدها – من دخول التاريخ في نعش كبير تلفه أكفـان من البيانـات والشعـارات؟

المصدر: جريدة "النهار" اللبنانية 5/6/2001