جاري تحميل الموقع . يرجى الانتظار
نبذة حول حياته 05 مايو 2016

المادة التالية توثق جزءا من الأيام والساعات الاخيرة في حياة الشهيد فيصل الحسيني. المادة مقتبسة من كتاب "لمحات من ذاكرة"  لمؤلفه شريف خالد الحسيني" الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع عام 2013.

"رحلة للمجهول: كان  أبو العبد مهتما بترتيب زيارة إلى الكويت منذ أن صادف على إحدى رحلاته الجوية  أنور إرشيد، الذي كان يعد لإنعقاد مؤتمر خليجي لمقاومة التطبيع مع إسرائيل، وجرى أثناء لقاء الصدفة هذا في العام 2000، حديث أولي حول دعوة  فيصل لحضور المؤتمر وكسر الجليد الكويتي- الفلسطيني المستمر من عام 1990. كان  أبو العبد متحمسا لزيارة الكويت، وأذكر إزدياد ذلك الحماس يوم كنا في قطر لمناسبة الندوة العالمية من أجل القدس والتي عقدت في أكتوبر 2000، حيث كان يرغب أن يكون أول مسؤول فلسطيني يزور الكويت بعد كل تلك القطيعة التي صمم أبو العبد أن يضع حدا لها، لاسيما وأنه عند وقوع الغزو العراقي للكويت عام 1990، كان من القلة النادرة التي وصفت "الإحتلال هو الإحتلال" بغض النظر عن الجهة التي تقوم به.

حدثني أنور يوم زرنا الكويت أنه كان يسعى لعقد مؤتمر مقاومة التطبيع في الكويت بمناسبة عيد إستقلال الكويت في 25 شباط 2001، ولكن الظروف لم تسمح بذلك إلى أن تم تحديده يوم 31/5/2001.

غادرت الوطن يوم 26 نيسان متوجها إلى عمان لإنجاز بعض الترتيبات المتعلقة بالرحلة التي حدد موعدها يوم 29/5/2001، على أن يلحق بي هو وبقية الوفد يوم الإثنين 28/5. وصل بعد منتصف الليل قادما عبر المطار، فضلت إنتظار الصبح حتى أضعه أمام مشكلة تأشيرة  ناصر قوس، مرافقه الشخصي الذي كان ضمن الوفد. لم نكن نعلم حقيقة موقف الكويت الرافض لإعطائه التأشيرة حتى قبيل سفرنا بساعات قليلة. كان رأي أبو العبد أن موضوع رفض منح ناصر التأشيرة يجب ألا يكون سببا لإلغاء الزيارة أو عرقلتها. قال لنخرج جميعا[1] للمطار وسنحصل على تأشيرة ناصر في مطار الكويت.

وصلنا مطار الكويت وكان في إستقبالنا عدد من الإخوة الكويتيين من أعضاء اللجنة التحضيرية للمؤتمر وعلى رأسهم  أنور رشيد. انتقلنا لصالون الشرف حيت تجمع الصحفيون الذين اعتبروا الزيارة فريدة من نوعها وبالتالي كانوا محتشدين بكافة انتماءاتهم ومؤسساتهم لمقابلة فيصل الحسيني. كانت تلك المناسبة معبرة عن أن الكويت "الرسمي" قد رحب بالزيارة، وإن جاءت على الشكل الشعبي الذي نظمت على أساسه. بعد قليل من الانتظار اقترح الإخوة الكويتيون انتقالنا للفندق، وكان بعض التأخير قد حصل بالنسبة لتأشيرة ناصر، فطلب مني فيصل البقاء مع ناصر وسبقنا هو لفندق "الهوليداى إن" القريب من المطار، ولحقنا بهم بعد وقت قصير.[2]

لم ترق لنا الغرفة التي نزل بها  أبو العبد، كما أن غرفة ناصر لم تكن مباشرة بجانب أو مقابل غرفة فيصل. طلبنا تغيير الغرفة فاستبدلت بالجناح رقم 866 والملحق به غرفة مباشرة ليكون ناصر بجواره. لم يدر بخلدي للحظة واحدة أن أغير الغرفة المخصصة لي لغرفة قريبة منه، كما أن غرفة رامي طهبوب لم تكن في نفس المنطقة من الفندق.

بعد استراحة قصيرة، تحركنا لزيارة السيد عبد المحسن الخرافي، رئيس مجلس الأمة الكويتي، في ديوانيته، وكنا وقتها أول من يزوره مساء ذلك اليوم. كانت جلسة جيدة عبر فيها الخرافي عن ترحيبه بأبي العبد ومرافقيه والمكانة المميزة والاحترام الذي يكنه الكويتيون لشخص فيصل الحسيني، وبغض النظر عن الموقف من "القيادة الفلسطينية".

عدنا للفندق وقضينا ليلة هادئة، زارنا خلالها بعض الأصدقاء الكويتيين، وراح فيصل يسأل عن أصدقاء عرفهم أيام الدراسة والعمل الوطني في القاهرة. كان فيصل حريصا أن يلتقي هؤلاء الأصدقاء[3]، كما كان يتطلع أن تكون زيارته للكويت ناجحة على جميع المستويات.

صباح اليوم التالي، الأربعاء 30/5 كان موعدنا في مجلس الأمة الكويتي، وكان قد سبق الموعد "سلسلة" من التهديدات بأن بعض النواب يريد قذف "المسؤول الفلسطيني" بالطماطم وغيرها. مجمل تلك التهديدات لم تكن تثني فيصل الحسيني عن مواجهة أية انتقادات أو مصاعب. على العكس كان يتطلع لها لتكون مدخل حوار يخرج منه منتصرا.

كان مجلس الأمة منعقدا ساعة وصلنا، ولم يكن أمامنا غير مسؤولي التشريفات بالمجلس وجمهرة من الصحفيين الذين راحوا يمطرون "الزائر" بسيل من الأقاويل والتساؤلات، حول نية "أبو عمار" زيارة الكويت وما إلى ذلك. وللحقيقة والتاريخ أننا لم نواجه بأية تصرفات غير لائقة من قبل أي من أعضاء مجلس الأمة الذين هددوا بإستقباله بالبندورة.

كان اجتماعنا المحدد مع رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الأمة الأستاذ محمد جاسم الصقر، والسادة : مقرر اللجنة عبد المحسن يوسف جمال، وأحمد الربعي.[4]

 انتهت الجلسة التي اعتبرناها ناجحة للغاية، سيما وأن تشكيلة الحضور من أعضاء مجلس الأمة عكست مختلف التيارات والكتل النيابية في المجلس. مرة أخرى انهالت الأسئلة الصحفية حول قضايا متعددة، وكنا بدفع من  أنور ومندوب التشريفات، على عجلة من الأمر لموعدد حدد مع الشيخ محمد صباح السالم الصباح وزير الدولة للشؤون الخارجية ، والذي جرت مقابلته في مكتبه بالقصر الأميري. كان لقاء حميما وصريحا أكد خلاله سمو الشيخ بأن الزيارة ستكلل بالنجاح التام، لا سيما وأن سلسة من المواعيد واللقاءات يجري ترتيبها مع كافة المسؤولين الرسميين، وذلك على ضوء الانتهاء من رسميات افتتاح المؤتمر.

عدنا للفندق للغداء والاستراحة قليلا، للحاق بعد ذلك بموعد لدى اللجنة الوطنية للأسرى والمعتقلين. انطلق فيصل ومن معه – أنور إرشيد وناصر على ما أذكر – نحو مطعم الفندق الواقع في أعلى درجات طويلة، وكأن بهم يركضون صعودا، لم يكن لدي الاستعداد لمثله، وصعدت الأدراج الطويلة على "أقل من مهل" كما يقولون. اتجهنا للمكان المخصص لنا، وكنا مجمعين على أطباق السمك والجمبري المشهور في الخليج، فنلنا منه كفايتنا. كان أبو العبد يتطلع لزيارة "حولي"، وقد أوصته أم العبد بزيارة عدد من الأماكن التي عرفتها عندما كانت تعمل مدرسة في الكويت في أواخر الستينات.

عصر ذلك اليوم زرنا مقر اللجنة الوطنية للأسرى والمعتقلين الكويتيين ومعرض الصور الخاصة في المكان، وبعد أن استمعنا لشرح حول اللجنة وعملها تجولنا في المعرض، وتوقفنا للاستماع إلى "أم أحمد" التي كانت تتكلم حول إبنها الغائب بكتلة مشتعلة من العواطف، مما دفعني للابتعاد قليلا ومراقبة المشهد عن بعد. للحقيقة أنني لم أكن أتحمل نحيبها، فآثرت الابتعد، وبقي فيصل يستمع بكل جوارحه، وعندما تابع رؤية المعرض توجه نحو سجل الزوار ليخط فيه كلمة قصيرة أورد نصها الكامل لما فيها من مشاعر نبيلة.[5]

كان من المقرر أن نزور إحدى الديوانيات الكويتية، وهي مجالس شعبية كويتية يتجمع فيها الناس لدى صاحب الديوانية، وحيث يؤمها الناس على مختلف اتجاهاتهم ومناصبهم، فيدور نقاش ديمقراطي حول أي من قضايا الساعة، ولكن أبلغنا  أنور أنه تم تأجيل زيارة الديوانية إإلى يوم آخر، على ضوء تحديد لقاء تلفزيوني للأخ فيصل في برنامج "وراء الأحداث" في تلفزيون الكويت بعد نشرة الأخبار المسائية وفي وقت الذروة التليفزيونية كما يقال.

قبل التوجه للتلفزيون، بقيت في الفندق أنا وأبو العبد في جناحه، بينما توجه ناصر لاستبدال حذاء الرياضة للأخ فيصل ليمارس بعض التمارين الصباحية. تلقى في هذه الأثناء مكالمة هاتفية حول برامجه في دولة  الإمارات، وكانت إحدى السيدات من صديقات إبنة عمنا ديإلى تقوم بإعداد جانب منه، فما كان منه إلا أن إستشاط غضبا على شخص آخر في الإمارات كان يحاول إلغاء عشاء خاصا لمجموعة من المتمولين العرب للقاء به سعيا وراء برنامج الدعم المطلوب للقدس واحتياجاتها. طلب إستدعاء رامي طهبوب ليتصل بالإمارات ليوقف تلك المحاولات التي اعتبرها هدامة وضارة بما كان يريد، وكان من المرات النادرة التي سمعته يصف شخصا ما بأنه "حمار". وفجأة  إذا به يسألني: "أين أصدقاءك الكويتيين" وكأنه أراد بذلك مداعبة محببة، فأجبته بأنهم سيأتون لزيارته حتما. وفورا سألته، وكأنني أحاول قطع محاولته البريئة، "ماذا تريد من الكويت يا أبا العبد؟ كي أكون في دور الوساطة بترجمة الحاجة بوضوح كامل بالتعاون مع الأصدقاء حتى نصل إلى الاحتياجات المطلوبة. راح يحسب على مفكرته الإلكترونية، ليقول بعدها: نحن بحاجة لحوالي 15 مليون دولار وبشكل سريع لنتمكن من حماية المنازل وترميمها في البلدة القديمة. بدا لي ذلك الرقم ممكنا بالنسبة للكويت، فقلت له : "سيأتيك ذلك على الأرجح." وبينما نحن وسط ذلك الحديث إلتقط له صورة خاصة، كانت آخر ما التقط له من صور. لم أكن ألحظ على الطبيعة أو في الصورة وقتئذ أي مؤشرات تعب أو وهن على وجهه البشوش، وهو ما قد لاحظته في الصورة بعد عودتنا. أستأذن بعدها وكان يريد أن يستلقي في غرفته استعدادا لما كان أمامنا من برنامج تلفزيوني ولقاءات مع مندوبين المؤتمر.

عاد ناصر بعد قليل، وبدأ بعض الأخوة يتوافدون، فجلسنا معهم بعض الوقت إلى أن حان موعد تحركنا للتلفزيون، حيث وصلنا واستقبلنا عدد من المسؤولين فيه، ومخرج ومقدم البرنامج.

انتقل أبو العبد إلى الاستوديو وبقينا نرقب الحديث من غرفة الإخراج. كان فيصل في حديثه ذلك متألقا،لا سيما وأن البعض كان يستغرب وجود أبو العبد المعروف بكونه المحاور الفلسطيني أمام الإسرائيليين والمواجه الصلب أمامهم، في مؤتمر لمقاومة التطبيع في الخليج. كان مبدعا في توضيح موقف الفلسطينيين الساعين لـ "فض اشتباك شعبهم مع العدو المحتل"، مقابل عملية "التطبيع" التي يسعى إليها دعاة التطبيع العرب.

لم يبدو على فيصل أي علامات تعب أو وهن – أو ذلك ما بدا لنا على الأقل- خلال المقابلة أو بعدها. كان مرتاحا للمقابلة، كما كنا جميعا من كويتيين وفلسطينيين.

حان الوقت للعودة إلى الفندق، وبادره عدد من الضيوف الموجودين في البهو بالسلام والتحية. قال: "نراك في الصباح لنلعب قليلا من الرياضة". قلت "ليست الرياضة من هواياتي، فسأراكم على الفطور، تصبحون على خير". وتوجهت لغرفتي، وبقي مع ناصر في البهو قليلا ثم صعد لغرفته لينتظر بعض الإخوة ممن قابلهم في البهو، كما علمت بذلك في اليوم التالي.

صحوت نحو السابعة، ونزلت للمطعم للفطور، فلم أجده. إلتقيت بأصدقاء قدامى من البحرين على الفطور، فتناولت فطوري مسرعا، إعتقادا بأنه وناصر قد قاموا برياضتهم وتناولوا فطورهم قبلي. توجهت نحو المصعد، فرأيت  الدكتور أحمد الخطيب جالسا في البهو، فتوجهت نحوه مسلما، وبعد لحظات استأذنت واعدا الحكيم أحمد بالعودة مع فيصل قبل بداية إفتتاح المؤتمر.

فتح باب المصعد على الطابق الثامن وخرجت بإتجاه صالة الإفطار الخاصة بكبار الزوار لعلي أجدهم هناك، ولم ألبث أن عدت لأجد حارس الأمن الكويتي يقول لي "ترى صاحبكم صار به شيْ"، فإنطلقت راكضا تحو الغرفة لأجد ناصر يغص بالبكاء، فأدركت لحظتها أن مصيبة قد وقعت. ركضت نحو الغرفة لأراه ممدا على سريره وكأنه في نوم عميق. اقتربت منه مخاطبا بلا جدوى، لمست يده لأجس نبضه فكان صدى يعود لي. ليتني بدلا منك يا أبا العبد، قلتها وأن أغص بكاء. تمالكت نفسي قليلا وخرجت للغرفة لأقول لناصر أطلب طبيبا من الفندق، وما لبثت أن تذكرت أن الدكتور أحمد الخطيب موجود في البهو، فقلت له إبحث عن رامي ليحضر وها هو الدكتور أحمد الخطيب فبي البهو فليأتي ليفحصه. كنت مدركا أن فيصل قد غادرنا دون إنذار، ولكن كان لا بد من حضور طبيب. كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة والنصف ولم يبق على افتتاح المؤتمر سوى دقائق معدودات. جاء الدكتور أحمد مشدوها بالخبر ودخل غرفة فيصل، وعاد ليقول لي "لقد مضى على وفاته ساعات، رحمه الله". في هذه الأثناء بدأ الخبر ينتشر كالنار في الهشيم، وقد عرف به بعض الصحفيين، فكان لزاما علي أن أخبر الأهل بتلك المصيبة-الكارثة. فكيف؟

قررت مكالمة إبن عمي موسى عبد القادر وهو شقيقه الأكبر لأنقل له الخبر شيئا فشيئا. كانت الساعة نحو التاسعة إلا عشر دقائق. تلعثمث في نقل الخبر لموسى فبادرني القول: "هل حصل شيء لفيصل، وقبل أن أجيب كان بكائي قد فضح الأمر فسمعته يقول "ليرحمه الله"، فسألته تبليغ الأهل في القدس بذلك. للحقيقة لم أكن قادرا على نقل مثل ذلك الخبر الفاجع لأبنائه وزوجته. لم تمض دقائق إلا ويرن الهاتف فإذا بعبد القادر على الطرف الآخر، متمالكا جأشه ومتحكما بأعصابه قائلا : نحاول ترتيب دفنه بجوار المسجد الأقصى حيث والده وجده " قلت لاتقل نحاول، فتلك أمنيته التي خبرتها طوال السنوات التي عرفت فيصل بها." فتلك لن تكون سوى أمرا مفروغا منه.

توافد أفراد الأمن من مختلف الأجهزة ليتولوا التدقيق والتحقيق. كان همي الوحيد أن ننتهي من كافة الإجراءات بأسرع ما يمكن لنعود به إلى مثواه الأخير. منعت من مرافقته للمشرحة، وجاء من يستدعينا لمبنى المباحث الجنائية حيث تواجد وكيل وزارة الداخلية وعدد من المسؤولين والذي بادرنا بالسؤال إذا كانت هناك رغبة بتشريح جسده قبل إتمام الإجراءات الضرورية. لم يكن يخالجني شك في ضرورة رفض فكرة التشريح، ولكن من قبيل الضرورة قلت له أن شقيقه إبن العم موسى هو من سيعطي في ذلك موقفا قاطعا. طلبناه للحديث فكان الجواب " نحن لا نرغب بتشريح الجسد، ونحن عائلة مؤمنة بقدر الله". نقل فيصل بعد ذلك للمستشفى لإتمام الإجراءات بينما نقلنا نحن للفندق لنجمع حاجاتنا ونعود حيث كنا. لم يستغرق منا ذلك سوى دقائق معدودة، وكانت الأنباء على أثير الإذاعات والفضائيات، مصحوبة بتعليق هنا وآخر هناك. كان البعض مشحونا بإتهام الكويت بأنها وراء وفاته الغامضة، وتفاوتت التفسيرات بين مدافع ومتهم. أخبرنا في تلك الأثناء أن سمو أمير الكويت ، وجلالة الملك عبدالله الثاني، قد أمرا بطائرة خاصة تنقل الفقيد والوفد المرافق له إلى عمان.

جاءني مندوب عن تلفزيون الكويت، لألقي بكلمة ربما كان البعض أن يدخلنا بها في خضم الإتهامات والنفي المضاد، فكان أن نعيت الفيصل إلى الشعب العربي في الوطن كما في الكويت بترجل فارس من فرسان هذه الأمة، وشكرت سمو الأمير على أمره.

كان لا بد من إنتظار الترتيبات بعضا من الوقت حسبته دهورا، قبل أن تقلع بنا الطائرة. كنت قد تمالكت نفسي وأصبح همي الوحيد الوفاء بما وعدت به عبدالقادر – أن أصل به للوطن والحرم القدسي الشريف.

غادرنا مطار الكويت عصرا برفقة بعض الأخوة  ممن إنتدبهم المؤتمر وبعض الأخوة الفلسطينيين في الكويت، وبوداع رسمي في مطار الكويت لنصل عمان بعد نحو ساعتين. كان منظر الجموع المحتشدة في أرض المطار حزينا ما بعده حزن. خرجت من باب الطائرة، وبلا دراية رحت أردد "لا إله إلا الله" فيعود جوابا من حشود حزينة "والشهيد حبيب الله". كان الأحباء في المطار. جاء عبد القادر من القدس ليكون في إستقبال والده. كان أحمد عبد الرحمن وصائب عريقات  يجهشان  بالبكاء وكان طاهر المصري حزينا إلى حد بعيد. كان آخرون بلا شك، ولكنني لم أكن في حالة وعي لأذكرهم واحدا واحد. حاولت السيارة التي وضع فيها نعشه الإنطلاق بدوني فصحت بمن كان فيها بأن ليس من حق إنسان ما أن يأخذ فيصل من دوني إلى أية جهة، ولم أكن قد عرفت وجهة نذهب إليها. صعدت للسيارة، تاركا كل حقائبنا ليتولى نقلها من كان قادرا على التفكير بذلك تحت تلك الظروف، واتجهنا لمستشفى الأردن، حيث كان لا بد من إيداعه لحين المغادرة للقدس صبيحة اليوم التالي. كان لا بد من نزع غطاء التابوت الخشبي كي يمكن حفظ الجسد في الثلاجة المخصصة لذلك. لا أدري إن عمل أحدهم لأخذ عينة منه للفحص أم لا. أقول ذلك من منطلق أن الضرورة ربما قضت لاحقا أن يتم ذلك، لكثرة الإشاعات التي خرجت حول وفاته. طلب من الآخرين الخروج وبقينا ثلة من الأخوة والأهل وبعض المرافقين والأطباء، وفتح الغطاء. كان فيصل هناك راقدا في نوم عميق، وصفته وجيهة إبنة أخيه موسى فعلا بأنه نائم. لم يطمئن قلبي عليه تماما إلا عندئذ. كان قد نقل من بيننا إلى مقر الأمن الجنائي، ولم أره منذئذ. كان فيصل بعينه. هدأ بالي وغادرنا المكان إلى منزل الدكتور موسى حيث توافد الناس للعزاء به.

لم تغمض عيوننا طيلة تلك الليلة. كان علينا رحلة عودة للقدس. عدنا لمرافقة الجثمان من المستشفى لمطار عمان العسكري حيث كان جلالة الملك عبدالله قد أمر بمروحية تنقل فيصل إلى رام الله تمهيدا للإنتقال به إلى القدس.

وصفت رحلة العودة تلك لاحقا بكلمة رثائية بعد غيابه بنحو أربعين يوما، وها أنا اليوم أعود لتلك الكلمات، فتغص العيون ولا أجد نفسي قادرا على وصف حالتنا بأكثر من ذلك[6]. رافقنا الجثمان على الطائرة – عبد القادر فيصل، موسى عبد القادر وزوجته أم العبد، وغازي عبد القادر وزوجته أم منصور، ومنصور غازي، وناصر قوس.

حطت بنا المروحية بعد وصول مروحية الرئيس عرفات ومروحية أخرى نقلت الوفد القطري الذي حضر خصيصا للمشاركة في الجنازة. وما أن فتح باب المروحية ونزلت منها حتى قبلت أرض المطار. ما الذي كان يدور في خاطري ساعتئذ، لست متيقنا من ذلك. حدسي أن رحلة وداع القائد فيصل إلى أرض الوطن قد تمت دون صعوبات تذكر. ها قد أعدت الأمانة لأهلها.

مضت الجنازة من المقاطعة في رام الله بموكب مهيب، إمتدت بها الجماهير كما لم تمتد في جنازة أخرى منذ جنازة القائد عبد القادر الحسيني في العام 1948. كان الإعياء قد بلغ أشده، ونحن نحاول الخروج من باب المقاطعة الخلفي نحو القدس، فكدت أسقط أرضا لولا أن ساعدني أحد الشباب لأخرج من وسط الجنازة لأطرافها، فبقيت بعض الوقت ألتقط أنفاسي، فجاء إبن العم إبراهيم نجيب وانتقلت بسيارته محاولين اللحاق بالموكب دون نجاح، فأخذنا طرقا فرعية للوصول إلى الحاجز العسكري الأخير قبل مغادرة رام الله بإتجاه القدس. كان الموكب قد وصل تلك النقطة في اللحظة التي وصلت فيها، وكان الأهل قد تجمعوا عندها للإنطلاق للقدس جنوبا. جلست في إحدى السيارات التي التقيت بها وجيه وإبن خالي فؤاد، وبقيت معهم وصولا لبيت الشرق. لا أريد هنا سرد وصف مسيرة الجنازة، فذلك أمر يمكن العودة إليه عبر الأشرطة المسجلة من مختلف أجهزة الإعلام. تستطيع الكاميرا تسجيل الظواهر، بينما كانت العين تلمس عواطف الناس من شيخ، لطفل ومن إمرأة ورجل، ممن وقفوا على جانبي الطريق من رام الله إلى القدس. شعور عميق من الحزن ممزوجا بالفخر والإعتزاز بما تكنه الجماهير الفلسطينية تجاه إبنها الشهيد. لست أجد وصفا يفي تلك الناس، ولا ذلك القائد، في محاولة نقل تلك اللحظات، بل تلك الساعات الطويلة.

كانت الجنازة سيلا بشريا عارما. أناس ساروا على أقدامهم من رام الله إلى القدس. "وكيف لا؟" يقول ذلك الشيخ الذي ربما سار في جنازة عبد القادر قبل نحو خمسين سنة.

وصلنا بيت الشرق ولم أتمكن من الوصول للنعش من شدة الإحتشاد الجماهيري، كدت أقع أرضا لولا أن أسعفني الدكتور مهدي عبد الهادي، فاتجه نحو مكتب أمن بيت الشرق لإلتقاط الأنفاس. لم يكن بالإمكان إلقاء نظرة وداع أخيرة عليه في مكتبه. لذا بقي الفيصل بالنسبة لي في مكتبه، فهو لا زال حيا باقيا.

كانت مشاهد الوداع الأخير في القدس تعج بمظاهر اعتزاز كثيرة، وبطبيعة الحال كانت بعض تلك المظاهرة العنيفة التي عبر بها الشباب عما بهم من حزن. فالأسوار وقبة الصخرة والمسجد الأقصى التي إزدانت بالإعلام الفلسطينية التي علقها المجهولون من أبناء فلسطين، إنما كانت تتمازج بذلك المسار الحزين نحو المثوى الأخير."

(المادة اعلاه هي  جزء مختار من فصل رحلة الى المجهول من مذكرات شريف خالد الحسيني الواردة في كتابه "لمحات من ذاكرة"  والصادر عن دار الشروق  للنشر والتوزيع عام 2013).

[1] كان العضو الرابع في الوفد رامي طهبوب.

[2] ثارت تكهنات عديدة حول سبب التأخير وأصبح ذلك مثار أحاديث صحفية متعددة نشر بعضها في الصحافة المحلية صبيحة اليوم التالي لوصولنا، وخلاصتها تشابه في"الإسم أو الشكل" بينه وبين مطلوب" فلسطيني" ارتكب أعمال أوجبت ملاحقته خلال الفترة التي أعقبت الإحتلال العراقي للكويت.

[3] ليلى حسين وسليمان العسكري وعبد العالي ناصر وآخرون.

[4] أقتطف من ملاحظات كتبتها في الجلسة : رحب رئس اللجنة بأبي العبد، آملا ألا تكون التصريحات التي أدلى بها البعض تجاه المنظمة وقيادتها سببا في إزعاج فيصل الحسيني الذي له مكانة خاصة في قلوب الكويتيين. أعطى الكلمة لأعضاء اللجنة الذين كرر كل منهم ما قاله رئيس اللجنة من إطراء شخصي لأبي العبد، معبرين عن موقفهم المبدئي بالتفريق ما بين قيادة المنظمة من جهة، ودعم الكويت للشعب الفلسطيني ونضاله الباسل.

[5] يرجع البعض سبب ما حصل لفيصل فجر اليوم التالي لما شعر به أثناء تلك الزيارة، ولكني أقول بيقين أن ذلك ليس بسبب مقنع بالنسبة لي. صحيح أن التأثر بلغ به حدا عاليا، ولكن أحاديثي معه بعد ذلك لم تعكس إنزعاجا أو تأثرا أدى لما حصل.

[6] راجع ملاحق الذاكرة بيت الشرق