جاري تحميل الموقع . يرجى الانتظار
رثاء 09 سبتمبر 2019

عبد الإله بلقزيز

 فيصل الحسيني: شهيدُ القدس الشاهد

 إذا لم يكن غير أنه ابن الشهيد عبد القادر الحسيني، قائد معركة القسطل وأحد أكبر قادة ثورة فلسطين في العام 1936، فهذا يكفيه كي يصنع له المهابة والاعتبار لدى شعبه. فكيف اذا نهل من تراث والده الوطني، وغرف من معين مدرسة الثورة المعاصرة، وظل مزروعا في قلب القدس رمزا للباقين على أرضيهم، ومنارة للعائدين إليها من أهلها بالبنادق والحجارة؟

انه فيصل الحسيني الذي تبكيه القدس وفلسطين وسائر أهلها في بلاد العرب والمسلمين في لحظة حزن ثقيلة على الوجدان، والذي تفتخر به القدس وفلسطين والأمة على جزيل ما أعطى وقدم لارض ستخلده وتحفظ ذكراه، ولامة ستروي لابنائها وحفدتها سيرة ال الحسيني وقد سار على دربهم من المؤمنين بحق لا يضيع وهم طالبوه.

مبكرا رحل هذا الستيني الجليل ولما يكمل رسالته التي انتدب لها النفس وهو يافع، وكان رحيله مفاجئا وصاعقا زوبع النفوس وانقشع عن حال من الذهول والصمت والحزن. وقال أخوه الأكبر ورفيقه في الكفاح، ياسر عرفات أنه سقط بغاز إسرائيلي ولم يكذب أو يتزيد، فصدر الفقيد كان متعبا، وما كان له أن يتحمل تلك الجرعات الهائلة من الموت الكيمائي الصهيوني، بل هو يكاد يكون أكثر المناضلين الفلسطينيين استنشاقا لغازات الصهاينة، لانه كان حاضرا باستمرار – ومنذ يزيد من ثلاثين عاما – على رأس المظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي تفضها قوات العدو بقنابل الغاز، فضلا عن العصي والرصاص وكم مرة جرح الفقيد في المواجهات ونكل به من قبل العصابات الصهيونية، التي كانت تتقصد ايذاءه للنيل من معنويات شعبه، فلا يزيده ذلك الا اصرارا على النزول الى المواجهة، مقدما بذلك درسا بليغا في السياسة، القيادة الحقيقية في القيادة الميدانية وليست القيادة المكتبية.

ظل فيصل الحسيني عنوانا فلسطينيا وعربيا للقدس، لم يغادرها يوما – ولو من أجلها – إلا كي يعود إليها، ناضل من أجل عروبتها ضد التهويد والضم، وأسس لها بنى وطنية تحميها وترد عنها جرافة الاغتصاب، أقام "بيت الشرق" في قلبها ليتحول هذا إلى مرجعية للمدينة ولسائر فلسطين، وأقام فيه "مركز الدراسات العربية" ليتحول إلى خلية علمية دائبة النشاط في كل ما يتصل بقضية القدس وقضية فلسطين، وحين ضمت اسرائيل مدينة القدس (الشرقية) إلى كيانها، وحاولت فرض الهوية الاسرائيلية على سكانها، نظم المقاومة ضد هذه الأسرلة للسكان، فمزقت هذه "الهويات" وأحرقت في تجمعات حاشدة، ثم حين اندلعت انتفاضة الأقصى– قبل ثمانية أشهر – كان في طليعة المتظاهرين المنتفضين تماما مثلما كان القائد الثاني لانتفاضة العام 1987 – بعد الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، والمرجع السياسي المباشر ل "القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة" التي أدارت فصول تلك الانتفاضة العظيمـة بحنكـة واقتـدار طيلة أعوام ستة من شموخ الوطنية الفلسطينية.

قليلون هم أولئك الذين ملكوا ما ملكه الحسيني  من روح تسامح، ورحابة صدر، وجلد في الحوار، واصرار نادر على بناء الجامع والمشترك في الرأي، وعلى تعظيمه وتنميته. تكاد لا تستشعر الخلاف معه على ما بينك وبينه من خلاف، وان تحسست الفواصل والتمايزات بين موقفك وموقفه، لا تجد الى خصومته وخصميته سبيلا، فلا أرفع من عبارات ومن مشاعر البين والبون وأعلى مقاما، وهو أشمخ من أن ترتجل في حضرته أو في غيابه ألفاط الاساءة، لذلكن قلما وجدت زعيماً فلسطينياً من طينته يحظى باحترام مخالفيه في الساحة الفلسطينية مثلما حظى –هو- بذلك، اللهم الا قلة قليلة في كوبتها "أبو عمار" و"أبو جهاد، و"جورج حبش"، و"حيدر عبد الشافي وعبد الحميد السايح، وبسام الشكعة، وآخرون، ممن هم عنوان اجماع أو ما يقارب ذلك.

أما تلك البساطة الاسطورية، فمن مناقب الفقيد التي لا يضارعه فيها أحد من أترابه، والتي تكاد لا تجدها في غيره من الناس، حتى العاديين منهم الذين يعرفون فيصلا، وكاتب هذه السطور منهم، يعرفون عنه هذه البساطة في كل شيء في حديثه وفي تواضعه، وفي حسه الانساني الرفيع، لا تشعر معه أنك أمام سيسي فلسطيني يعمل، بل أمام مواطن عادي يتعلم من الاخرين بصدق، ولا تكاد تعثر في قاموسه على عبارات تجلي لغة البراءة الاولى. كأنه شاعر رقيق من دون أن يقرض شعرا بلسانه الدلق العفيف، ورهافة مشاعره الانسانية الحارة، ومسحة الخجل التي تتسلق محياه، يأسرك ويستصفي فيك ما تصفحه السياسة بالقشور من مشاعر نبيلة.

... هذا هو فيصل الذي غادرنا، هذا هو فيصل الذي سيبقى معنا، نفس كبيرة ما تحملها جسد متعب... فاذا كانت النفوس كبيرة، تعبت في حملها الأجسام.

المصدر: جريدة "الخليج" 4/6/2001