جاري تحميل الموقع . يرجى الانتظار
رثاء 09 سبتمبر 2019

الحسيني وأبو لغد: رسائل فلسطينية فاعلـة

 بقلم: هيلينا كوبـان

كاتبة متخصصة في شؤون الشرق الأوسط

هكذا يقف كل جيل بدوره في مقدمة الموكب – ثم يمضي إلى الموت. ويتضاعف الألم أحيانا عندما يحدث هذا قبل الآوان. لقد أحزنني موت الشخصيتين الفلسطينيتين العملاقتين إبراهيم أبو لغد وفيصل الحسيني، وأتذكر الآن تحادثي مراراً مع "الدكتور ابراهيم" في بيروت ثم بعد وقت طويل على ذلك في رام اللهز وكيف كان يتكلم، وفي عينيه ذلك البريق الحي، عن سعادته العميقة بالعودة إلى الوطن ضمن العائدين بعد اتفاق أوسلو – حتى لو لم يستطع السكن في مرتع طفولته يافا. كما أتذكر لقاءات كثيرة مع "أبو العبد" في باريس والقدس، دارت غالباً على التعقيدات السياسية الكبيرة التي يواجهها بحكم مهماته في القدس، محاصراً بما لا يُحصى من "النيران" من جهة و"المقابلات" من الثانية. وأيضاً النقاش عن إمكانيات وحدود العمل السياسي الفلسطيني.

لكن وصولهما إلى هذه النتيجة كل بطريقته الخاصة، كان له مستتبعاته القوية وأيضا، كما اعتقد، البالغة الايجابية، فقد مكنهما ذلك من تبليغ رسالتهما عن المطلب الوطني الفلسطيني وايضا إمكان التعايش الفلسطيني الإسرائيلي، إلى طيف واسع من الإسرائيليين والموالين لهم، الذي ما كان له أن يسمع بوجود موقف كهذا. لقد أديا هذا الدور بفاعلية، وها قد سمعنا، من بين التأبينات الرقيقة الكثيرة ووقفات التذكر والوداع بعد موت كل منهما، عددا من رسائل التفهم والتقدير والود من يهود إسرائيليين مهمين.

لكن كم من الفلسطينيين سيحاول تكريم ذكرى "أبو العبد" و "الدكتور إبراهيم" من خلال التفكير في طريق لجعل "الرسائل" الفلسطينية إلى الإسرائيليين ومناصريهم أكثر فاعلية؟ اعتقد أن هذا هو السبيل الفضل للابقاء على تركة الفقيدين.

أعرف أنه لا يزال هناك الكثير من الفلسطينيين الذين يشكون في أي إمكان للتعايش مع إسرائيل، حتى بوجود دولة فلسطينية قوية جنبا إلى جنب مع الدولة اليهودية، فيما تصدر من إسرائيل هذه الأيام – خصوصا منذ انتفاضة الأقصى – الكثير من رسائل الحقد العنصري والعنف الوحشي الموجه إلى الفلسطينيين.

 لكن أرى أن على على الفلسطينيين المطالبين بالحد الأعلى، الذين يريدون إنشاء دولة فلسطينية (أو إسلامية) على كل فلسطين وازالة الدولة اليهودية تماما، أن يوضحوا كيف يمكنهم ذلك، مهما بدت الامكانية بعيدة؟ إذ هل تشابه إسرائيل اليهودية الادارة الفرنسية في الجزائر لكي تمكن إزالتها عن وجه الأرض؟ وهل تشابه الإدارة البرتغالية في أنغولا أو موزمبيق؟

لا اعتقد ذلك، لم تملك أي من هاتين الادارتين الاستعماريتين أية مكانة في القانون الدولي كما هي الحال بالنسبة إلى إسرائيل المعترف بها بشكل كامل. ولم يكن أي منهما يتمتع بأي شيء يشبه الدعم المادي القوي والمستمر الذي تحصل عليه إسرائيل من قوة عالمية مهيمنة.

كلا، فبدلا من التماثل مع الجزائر الفرنسية أو موزمبيق البرتغالية أو أنغولا البرتغالية (سابقا) تشبه إسرائيل المتروبول الفرنسي أو الجزائري ذاته، وتمثل شبكة المستوطنات الاسرائيلية، والبنية الأوسع للاحتلال العسكري الذي غدت فيه المستوطنات النمط الموازي للادارتين الاستعماريتين.

 بايجاز دقيقن يمثل إنهاء الاحتلال وتجاوزاته – بما في ذلك كل المستوطنات أو كلها تقريباً – هدفا يمكن تحقيقه ف غضون ثلاث إلى عشر سنوات. أما إنهاء إسرائيل فهو – بصرف النظر عن مشاعر المرء بشأنه – هدف لا يمكن تحقيقه خلال أي جزء من المستقبل المنظور، وهو لا يختلف عن إمكان "إنهاء" فرنسا أو البرتغال.

يطلب البعض من العائلات الفلسطينية أن تقدم تضحيات متواصلة ومكلفة على نحو مؤلم تماما، حتى وإن كان هذا من أجل هدف لا يمكن تحقيقه. أليس هذا أيديولوجية منفلتة؟

إن الهـدف الذي يمكن تحقيقه – وهذا شيء أدركه أبو العبد والدكتور إبراهيم أبو لغـد – يقوم على تعايش دولتين قابلتين للبقاء- إحداهما دولة فلسطينية يمكن أن تكون ملاذا للشعب الفلسطيني وتراثه وقيمه، والأخرى دولة إسرائيلية. وإذ أخذنا في الاعتبار الاختلال الفاضح في القوة "الفعلية" بين الشعبين، فإن أفضل سبل تمكن الفلسطينيين من تحقيق تحصيلة الدولتين تكمن في اعتماد الاقناع وليس القسر.

يفسر هذا لماذا رأينا "أبو العبد"، قبل بضعة اسابيع فحسب، على رأس مسيرة ضمت أشخاصا عزلا وكانت تهدف عبر وسائل سلمية إلى فتح الطريق إلى بيرزيت. نعم، تعرضوا إلى الغاز المسيل للدموع. نعم، بدأ بعض الشبان الفلسطينيين المرتعبين بالتقاط الحجارة وقذفها. ونعم، أصبحت الأمور مشوشة ومضطربة إلى حد بعيد، لكنها كانت، رغم ذلك، تجربة جديرة بالاهتمام، فقد أظهرت بشكل خاص الحاجة إلى مستوى عال من الانضباط والتنظيم والادراك على الجانـب الفلسطيني.

كتبت سابقا عن الحاجة إلى أن يتذكر النشطاء الفلسطينيون وهم يكافحون ضد الاحتلال كبنية، أن يتركوا "مخرجاً أمناً وجذابا" لاولئك الأشخاص – من أفراد الجيش الاسرائيلي المستوطنين – الذين ينفذون سياسات الاحتلال. واستنادا إلى نموذج "إسرائيل مثل فرنسا (المتروبول)"، سيكون هذا متمشيا مع الاستراتيجية التي استخدمها الوطنيون والجزائريون في الخمسينيات والستينيات، عندما قرروا بحزم عدم مهاجمة أية أهداف داخل فرنسا ذاتها.

 سيعني هذا في الحالة الفلسطينية تبني استراتيجية ثابتة بعدم مهاجمة أهداف داخل اسرائيل 1948 بدلا من ذلك، ينبغي أن نترك إسرائيل 1948 كمنطقة آمنة جذابة "يعود" إليها الجنود والمستوطنون: "أيها الإسرائيليون، عودوا إلى دياركم!".

 بالاضافة الى ذلك، ستكون رسالة بسيطة كهذه أكثر فاعلية مئة مرة عندما توجه إلى الأفراد الاسرائيليين المعنيين بروح ودية، وبحزم أيضا، من جانب جماهير غفيرة من فلسطينيين عزل يمدون يدا تعد بصداقة وتعايش في المستقبل، بدلا من تمسك بالحجارة أو تقذف وابلا منها.

 نعم، في أعقاب الوفاة المؤلمة للدكتور ابراهيم ولابي العبد، لا بد لتجربة العمل الجماهيري المدني واللاعنفي أن تستمر. فالمجتمع الاسرائيلي اليهودي يقف عند نقطة متفجرة جدا. ورغم أن بعض الاصوات أكثر صخبا هي حتى الان كما يبدو أصوات اليمين المؤيد للمستوطنين – التي تنتقد حالياً حتى أرئيل شارون لكونه "متساهلا" جداً! فإن الأصوات على الطرف الآخر، الأصوات التي تنتقد المستوطنين، تتعاظم أيضاً.

ويملك الفلسطينيون قوة فريدة للتأثير في معركة الأفكار هذه داخل إسرائيلن، فبامكانهم تعزيز المشاهر المناهضة للمستوطنين والمناهضة للاحتلال إذا تحركوا برصانة وترو بارع. أو يمكنهم أن يقووا موقف المستوطنين، إذا استمروا بأنماط قديمة من الرد بعنف والرد المضاد.

المصدر: جريدة "الحياة" اللندنية حــزيــران 2001